وفي قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} وجهان: الأول: فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن، فآتوهن أجورهن عليه، ثم أسقط الراجع إلى ما لعدم الالتباس كقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور} [الشورى: 43] فأسقط منه.
والثاني: أن يكون ما في قوله: {مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} بمعنى النساء ومن في قوله: {مِنْهُنَّ} للتبعيض، والضمير في قوله: {بِهِ} راجع إلى لفظ {مَا} لأنه واحد في اللفظ، وفي قوله: {فآتوهن أجورهن} إلى معنى ما لأنه جمع في المعنى، وقوله: {أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا} إلى قوله: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] وهي المهور، وكذا قوله: {فآتوهن أجورهن} ههنا، وقال تعالى في آية أخرى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وإنما سمي المهر أجرًا لأنه بدل المنافع، وليس ببدل من الأعيان، كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا، والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قال الشافعي: الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر.
وقال أبو حنيفة تقرره.
واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية لأن قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مشعر بأن وجوب إيتائهن مهورهن كان لأجل الاستمتاع بهن، ولو كانت الخلوة الصحيحة مقررة للمهر كان الظاهر أن الخلوة الصحيحة تتقدم الاستمتاع بهن، فكان المهر يتقرر قبل الاستمتاع، وتقرره قبل الاستمتاع يمنع من تعلق ذلك التقرر بالاستمتاع، والآية دالة على أن تقرر المهر يتعلق بالاستمتاع، فثبت أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر. اهـ.
قال الفخر:
في هذه الآية قولان:
أحدهما: وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله: {أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم} المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح، وقوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فإن استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام، وإن استمتع بعقد النكاح آتاها نصف المهر.
والقول الثاني: أن المراد بهذه الآية حكم المتعة، وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها، واتفقوا على أنها كانت مباحة في ابتداء الإسلام، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة، فشكا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم طول العزوبة فقال: «استمتعوا من هذه النساء»، واختلفوا في أنها هل نسخت أم لا؟ فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنها صارت منسوخة، وقال السواد منهم: إنها بقيت مباحة كما كانت وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين، أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات: احداها: القول بالاباحة المطلقة، قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة: أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: هي متعة كما قال تعالى، قلت: هل لها عدة؟ قال نعم عدتها حيضة، قلت: هل يتوارثان؟ قال لا.
والرواية الثانية عنه: أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال ابن عباس: قاتلهم الله إني ما أفتيت باباحتها على الاطلاق، لكني قلت: إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له.
والرواية الثالثة: أنه أقر بأنها صارت منسوخة.
روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} قال صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {يا أيُّهَا النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وروي أيضا أنه قال عند موته: اللهم إني أتوب إليك من قولي في المتعة والصرف وأما عمران بن الحصين فإنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا بها، ومات ولم ينهنا عنه، ثم قال رجل برأيه ما شاء.
وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة، وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي، وروى محمد بن علي المشهور بمحمد بن الحنفية أن عليا رضي الله عنه مر بابن عباس وهو يفتي بجواز المتعة، فقال أمير المؤمنين: إنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها وعن لحوم الحمر الأهلية، فهذا ما يتعلق بالروايات.
واحتج الجمهور على حرمة المتعة بوجوه: الأول: أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المعارج: 29، 30] وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة، وليست أيضا زوجة، ويدل عليه وجوه: أحدها: لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} [النساء: 12] وبالاتفاق لا توارث بينهما، وثانيها: ولثبت النسب، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الولد للفراش» وبالاتفاق لا يثبت، وثالثها: ولوجبت العدة عليها، لقوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] واعلم أن هذه الحجة كلام حسن مقرر.
الحجة الثانية: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما، ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد، فالحال هاهنا لا يخلو إما أن يقال: انهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا، أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها.
فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك، والأول هو المطلوب، والثاني يوجب تكفير عمر، وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المتعة، ثم قال: إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله، ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا، كان كافرا أيضا.
وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110].
والقسم الثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا، فهذا أيضا باطل، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح، واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل، ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا، بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة، وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الانكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الاسلام.
فإن قيل: ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال: لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته، ولا شك أن الرجم غير جائز، مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكل ذلك، فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الإنكار على الباطل.
قلنا: لعله كان يذكر ذلك على سبيل التهديد والزجر والسياسة، ومثل هذه السياسات جائزة للإمام عند المصلحة، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من منع منا الزكاة فانا آخذوها منه وشطر ماله» ثم أن أخذ شطر المال من مانع الزكاة غير جائز، لكنه قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للمبالغة في الزجر، فكذا هاهنا والله أعلم.
الحجة الثالثة على أن المتعة محرمة: ما روى مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد ابن علي عن أبيهما عن علي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية.
وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول: «يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا» وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «متعة النساء حرام» وهذه الأخبار الثلاثة ذكرها الواحدي في البسيط، وظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ، ومجرد النكاح ليس كذلك، أما القائلون بإباحة المتعة فقد احتجوا بوجوه.
الحجة الأولى: التمسك بهذه الآية أعني قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} وفي الاستدلال بهذه الآية طريقان:
الطريق الأول: أن قول: نكاح المتعة داخل في هذه الآية، وذلك لأن قوله: {أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم} يتناول من ابتغى بماله الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأييد، ومن ابتغى بماله على سبيل التأقيت، وإذا كان كل واحد من القسمين داخلا فيه كان قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم} يقتضي حل القسمين، وذلك يقتضي حل المتعة.
الطريق الثاني: أن نقول: هذه الآية مقصورة على بيان نكاح المتعة، وبيانه من وجوه: الأول: ما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فآتوهن أجورهن} وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس، والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة، فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة، وتقريره ما ذكرتموه في أن عمر رضي الله عنه لما منع من المتعة والصحابة ما أنكروا عليه كان ذلك إجماعا على صحة ما ذكرنا، وكذا ههنا، وإذا ثبت بالإجماع صحة هذه القراءة ثبت المطلوب.
الثاني: أن المذكور في الآية إنما هو مجرد الابتغاء بالمال، ثم إنه تعالى أمر بايتائهن أجورهن بعد الاستمتاع بهن، وذلك يدل على أن مجرد الابتغاء بالمال يجوز الوطء، ومجرد الابتغاء بالمال لا يكون إلا في نكاح المتعة، فأما في النكاح المطلق فهناك الحل إنما يحصل بالعقد، ومع الولي والشهود، ومجرد الابتغاء بالمال لا يفيد الحل، فدل هذا على أن هذه الآية مخصوصة بالمتعة.
الثالث: أن في هذه الآية أوجب إيتاء الأجور بمجرد الاستمتاع، والاستمتاع عبارة عن التلذذ والانتفاع، فأما في النكاح فايتاء الأجور لا يجب على الاستمتاع ألبتة، بل على النكاح، ألا ترى أن بمجرد النكاح يلزم نصف المهر، فظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ.
ومجرد النكاح ليس كذلك.
الرابع: أنا لو حملنا هذه الآية على حكم النكاح لزم تكرار بيان حكم النكاح في السورة الواحدة، لأنه تعالى قال في أول هذه السورة: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ثم قال: {وَءاتُواْ النساء صدقاتهن نِحْلَةً} [النساء: 4] أما لو حملنا هذه الآية على بيان نكاح المتعة كان هذا حكما جديدا، فكان حمل الآية عليه أولى والله أعلم.
الحجة الثانية على جواز نكاح المتعة: أن الأمة مجمعة على أن نكاح المتعة كان جائزا في الإسلام، ولا خلاف بين أحد من الأمة فيه، إنما الخلاف في طريان الناسخ، فنقول: لو كان الناسخ موجودا لكان ذلك الناسخ إما أن يكون معلوما بالتواتر، أو بالآحاد، فإن كان معلوما بالتواتر، كان علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب تكفيرهم، وهو باطل قطعا، وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل، لأنه لما كان ثبوت إباحة المتعة معلوما بالإجماع والتواتر، كان ثبوته معلوما قطعا، فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعًا للمقطوع وإنه باطل.
قالوا: ومما يدل أيضا على بطلان القول بهذا النسخ أن أكثر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر، وأكثر الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح، وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر، وذلك يدل على فساد ما روي أنه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر، لأن الناسخ يمتنع تقدمه على المنسوخ، وقول من يقول: انه حصل التحليل مرارًا والنسخ مرارًا ضعيف، لم يقل به أحد من المعتبرين، إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات.