فصل: القول في الإحرام‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **


بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

 كتاب الصيام الثاني وهو المندوب إليه‏.‏

-والنظر في الصيام المندوب إليه هو في تلك الأركان الثلاثة وفي حكم الإفطار فيه‏.‏ فأما الأيام التي يقع فيها الصوم المندوب إليه وهو الركن الأول، فإنها على ثلاثة أقسام‏:‏ أيام مرغب فيها، وأيام منهى عنها، وأيام مسكوت عنها‏.‏ ومن هذه ما هو مختلف فيه، ومنها ما هو متفق عليه‏.‏ أما المرغب فيه المتفق عليه فصيام يوم عاشوراء‏.‏ وأما المختلف فيه فصيام يوم عرفة وست من شوال والغرر من كل شهر، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر‏.‏ أما صيام يوم عاشوراء، فلأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه وقال فيه ‏"‏من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه‏"‏ واختلفوا فيه هل هو التاسع أو العاشر‏.‏ والسبب في ذلك اختلاف الآثار، خرج مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ إذا رأيت الهلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت‏:‏ هكذا كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وروي ‏"‏أنه حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا‏:‏ يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع‏"‏ قال‏:‏ فلم يأتي العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما اختلافهم في يوم عرفة، فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أفطر يوم عرفة، وقال فيه ‏"‏صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والآتية‏"‏ ولذلك اختلف الناس في ذلك، واختار الشافعي الفطر فيه للحاج وصيامه لغير الحاج جمعا بين الأثرين‏.‏ وخرج أبو داود ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة‏"‏ وأما الست من شوال فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر‏"‏ إلا أن مالكا كره ذلك، إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس في رمضان، وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر، وكذلك كره مالك تحري صيام الغرر مع ما جاء فيها من الأثر مخافة أن يظن الجهال بها أنها واجبة، وثبت ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام غير معينة، وأنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص لما أكثر الصيام‏:‏ ‏"‏أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام‏؟‏ قال‏:‏ فقلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال‏:‏ خمسا، قلت‏:‏ يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال‏:‏ سبعا، قلت‏:‏ يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال‏:‏ تسعا، قلت‏:‏ يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال‏:‏ أحد عشر، قلت‏:‏ يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا صوم فوق صيام داود، شطر الدهر صيام يوم، وإفطار يوم‏"‏

وخرج أبو داود ‏"‏أنه كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس‏"‏ وثبت أنه لم يستتم قط شهرا بالصيام غير رمضان، وإن أكثر صيامه كان في شعبان‏.‏ وأما الأيام المنهى عنها، فمنها أيضا متفق عليها، ومنها مختلف فيها‏.‏ أما المتفق عليها فيوم الفطر ويوم الأضحى لثبوت النهي عن صيامهما‏.‏ وأما المختلف فيها فأيام التشريق ويوم الشك ويوم الجمعة ويوم السبت والنصف الآخر من شعبان وصيام الدهر‏.‏ أما أيام التشريق فإن أهل الظاهر لم يجيزوا الصوم فيها‏.‏ وقوم أجازوا ذلك فيها‏.‏ وقوم كرهوه، وبه قال مالك، إلا أنه أجاز صيامها لمن وجب عليه الصوم في الحج وهو المتمتع، وهذه الأيام هي الثلاثة الأيام التي بعد يوم النحر‏.‏ والسبب في اختلافهم تردد قوله عليه الصلاة والسلام في ‏"‏إنها أيام أكل وشرب‏"‏ بين أن يحمل على الوجوب أو على الندب، فمن حمله على الوجوب قال‏:‏ الصوم يحرم، ومن حمله على الندب قال‏:‏ الصوم مكروه، ويشبه أن يكون من حمله على الندب إنما صار إلى ذلك وغلبه على الأصل الذي هو حمله على الوجوب لأنه رأى أنه إن حمله على الوجوب عارضه حديث أبي سعيد الخدري الثابت بدليل الخطاب، وهو أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏لا يصح الصيام في يومين يوم الفطر من رمضان ويوم النحر‏"‏ فدليل الخطاب يقتضي أن ما عدا هذين اليومين يصح الصيام فيه، وإلا كان تخصيصهما عبثا لا فائدة فيه‏.‏ وأما يوم الجمعة فإن قوما لم يكرهوا صيامه، ومن هؤلاء مالك وأصحابه وجماعة، وقوم كرهوا صيامه إلا أن يصام قبله أو بعده‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، فمنها حديث ابن مسعود ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قال‏:‏ وما رأيته يفطر يوم الجمعة‏"‏ وهو حديث صحيح‏.‏

ومنها حديث جابر ‏"‏أن سائلا سأل جابرا أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم‏؟‏ قال‏:‏ نعم ورب هذا البيت‏"‏ خرجه مسلم‏.‏ ومنها حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده‏"‏ خرجه أيضا مسلم، فمن أخذ بظاهر حديث ابن مسعود، أجاز صيام يوم الجمعة مطلقا، ومن أخذ بظاهر حديث جابر كرهه مطلقا، ومن أخذ بحديث أبي هريرة جمع بين الحديثين، أعني حديث جابر وحديث ابن مسعود‏.‏

وأما يوم الشك فإن جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان لظواهر الأحاديث التي يوجب مفهومها تعلق الصوم بالرؤية أو بإكمال العدد إلا ما حكيناه عن ابن عمر، واختلفوا في تحري صيامه تطوعا، فمنهم من كرهه على ظاهر حديث عمار ‏"‏من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم‏"‏ ومن أجازه فلأنه قد روي أنه عليه الصلاة والسلام صام شعبان كله، ولما قد روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏لا تتقدموا رمضان بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم فليصمه‏"‏ وكان الليث بن سعد يقول‏:‏ إنه إن صامه على أنه من رمضان ثم جاء الثبت أنه من رمضان أجزأه، وهذا دليل على أن النية تقع بعد الفجر في التحول من نية التطوع إلى نية الفرض‏.‏ وأما يوم السبت، فالسبت في اختلافهم فيه اختلافهم في تصحيح ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم‏"‏ خرجه أبو داود، قالوا‏:‏ والحديث منسوخ، نسخة حديث جويرية بنت الحارث ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال‏:‏ صمت أمس‏؟‏ فقالت‏:‏ لا، فقال‏:‏ تريدين أن تصومي غدا‏؟‏ قالت‏:‏ لا، قال‏:‏ فأفطري‏"‏‏.‏

وأما صيام الدهر فإنه قد ثبت النهي عن ذلك، لكن مالك لم ير بذلك بأسا، وعسى رأى النهي في ذلك إنما هو من باب خوف الضعف والمرض‏.‏ وأما صيام النصف الآخر من شعبان، فإن قوما كرهوه، وقوما أجازوه، فمن كرهوه فلما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان‏"‏ ومن أجازه فلما روي عن أم سلمة قالت ‏"‏ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان‏"‏ ولما روي عن ابن عمر قال ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن شعبان برمضان‏"‏ وهذه الآثار خرجها الطحاوي‏.‏ وأما الركن الثاني وهو النية فلا أعلم أن أحدا لم يشترط النية في صوم التطوع، وإنما اختلفوا في وقت النية على ما تقدم‏.‏ وأما الركن الثالث وهو الإمساك عن المفطرات فهو بعينه الإمساك الواجب في الصوم المفروض، والاختلاف الذي هنالك لاحق ههنا‏.‏ وأما حكم الإفطار في التطوع فإنهم أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء‏.‏ واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامدا، فأوجب مالك وأبو حنيفة عليه القضاء، وقال الشافعي وجماعة‏:‏ ليس عليه قضاء‏.‏

والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أن مالكا روى أن حفصة وعائشة زوجي النبي عليه الصلاة والسلام أصبحتا صائمتين متطوعتين، فأهدى لهما الطعام فأفطرتا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقضيا يوما مكانه‏"‏ وعارض هذا حديث أم هانئ قالت ‏"‏لما كان يوم الفتح فتح مكة، جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه، قالت‏:‏ فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب، فناولته فشرب منه، ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، قالت‏:‏ يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها عليه الصلاة والسلام‏:‏ أكنت تقضين شيئا‏؟‏ قالت‏:‏ لا، قال‏:‏ فلا يضرك إن كان تطوعا‏"‏ واحتج الشافعي في هذا المعنى بحديث عائشة أنها قالت ‏"‏دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ أنا خبأت لك خبئا، فقال‏:‏ أما إني كنت أريد الصيام ولكن قربيه‏"‏ وحديث عائشة وحفصة غير مسند‏.‏

ولاختلافهم أيضا في هذه المسألة سبب آخر، هو تردد الصوم التطوع بين قياسه على صلاة التطوع أو على حج التطوع، وذلك أنهم أجمعوا على أن من دخل في الحج والعمرة متطوعا يخرج منهما أن عليه القضاء‏.‏ وأجمعوا على أن من خرج من صلاة التطوع فليس عليه قضاء فيما علمت، وزعم من قاس الصوم على الصلاة أنه أشبه بالصلاة منه بالحج، لأن الحج له حكم خاص في هذا المعنى، وهو أنه يلزم المفسد له المسير فيه إلى آخره، وإذا أفطر في التطوع ناسيا فالجمهور على أن لا قضاء عليه، وقال ابن علية عليه القضاء قياسا على الحج، ولعل مالكا حمل حديث أم هانئ على النسيان، وحديث أم هانئ خرجه أبو داود، وكذلك خرج حديث عائشة بقريب من اللفظ الذي ذكرناه، وخرج حديث عائشة وحفصة بعينه‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

 كتاب الاعتكاف‏.‏

-والاعتكاف مندوب إليه بالشرع واجب بالنذر، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة أن لا يوفى شرطه وهو في رمضان أكثر منه في غيره، وبخاصة في العشر الأواخر منه، إذ كان ذلك هو آخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم، وهو بالجملة يشتمل على عمل مخصوص في موضع مخصوص وفي زمان مخصوص بشروط مخصوصة وتروك مخصوصة‏.‏ فأما العمل الذي يخصه ففيه قولان‏:‏ قيل إنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب، وهو مذهب ابن القاسم‏.‏ وقيل جميع أعمال القرب والبر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب، فعلى هذا المذهب يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدرس العلم، وعلى المذهب الأول لا، وهذا هو مذهب الثوري، والأول هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة‏.‏ وسبب اختلافهم أن ذلك شيء مسكوت عنه، أعني أنه ليس فيه حد مشروع بالقول، فمن فهم من الاعتكاف حبس النفس على الأفعال المختصة بالمساجد قال‏:‏ لا يجوز للمعتكف إلا الصلاة والقراءة‏.‏ ومن فهم منه حبس النفس على القرب الأخروية كلها أجاز له غير ذلك مما ذكرناه‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ من اعتكف لا يرفث ولا يساب، وليشهد الجمعة والجنازة، ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم ولا يجلس‏.‏ ذكره عبد الرزاق‏.‏ وروي عن عائشة خلاف هذا، وهو أن السنة للمعتكف أن لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا، وهذا أيضا أحد ما أوجب الاختلاف في هذا المعنى‏.‏ وأما المواضع التي يكون فيها الاعتكاف، فإنهم اختلفوا فيها فقال قوم‏:‏ لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة بيت الله الحرام وبيت المقدس ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام وبه قال حذيفة وسعيد بن المسيب‏.‏ وقال آخرون‏:‏ الاعتكاف عام في كل مسجد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري، وهو مشهور مذهب مالك‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا اعتكاف إلا في مسجد فيه جمعة، وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك‏.‏ وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد، إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصح في غير مسجد، وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد، وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المرأة إنما تعتكف في مسجد بيتها‏.‏

وسبب اختلافهم في اشتراط المسجد أو ترك اشتراطه هو الاحتمال الذي في قوله تعالى ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ بين أن يكون له دليل خطاب أو لا يكون له‏؟‏ فمنن قال له دليل خطاب قال‏:‏ لا اعتكاف إلا في مسجد، وإن من شرط الاعتكاف ترك المباشرة‏.‏ ومن قال ليس له دليل خطاب قال‏:‏ المفهوم منه أن الاعتكاف جائز في غير المسجد وأنه لا يمنع المباشرة لأن قائلا لو قال‏:‏ لا تعط فلانا شيئا إذا كان داخلا في الدار لكان مفهوم دليل الخطاب يوجب أن تعطيه إذا كان خارج الدار، ولكن هو قول شاذ‏.‏ والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنها من شرطه‏.‏ وأما سبب اختلافهم في تخصيص بعض المساجد أو تعميمها فمعارضة العموم للقياس المخصص له، فمن رجح العموم قال‏:‏ في كل مسجد على ظاهر الآية‏.‏ ومن انقدح له تخصيص بعض المساجد من ذلك العموم بقياس اشترط أن يكون مسجدا فيه جمعة لئلا ينقطع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة، أو مسجدا تشد إليه المطي مثل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع فيه اعتكافه، ولم يقس سائر المساجد عليه إذ كانت غير مساوية له في الحرمة‏.‏ وأما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس أيضا للأثر، وذلك ‏"‏أنه ثبت أن حفصة وعائشة وزينب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في المسجد، فأذن لهم حين ضربن أخبيتهن فيه‏"‏ فكان هذا الأثر دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد‏.‏ وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة، وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء الخبر وجب أن يكون الإعتكاف في بيتها أفضل قالوا وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من اعتكاف أزواجه عليه الصلاة والسلام معه كما تسافر معه ولا تسافر مفردة، وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر‏.‏

وأما زمان الاعتكاف فليس لأكثره عندهم حد واجب، وإن كان كلهم يختار العشر الأواخر من رمضان بل يجوز الدهر كله، إما مطلقا عند من لا يرى الصوم من شروطه، وإما ما عدا الأيام التي لا يجوز صومها عند من يرى الصوم من شروطه‏.‏ وأما أقله فإنهم اختلفوا فيه، وكذلك اختلفوا في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف لاعتكافه وفي الوقت الذي يخرج فيه منه‏.‏ أما أقل زمان الاعتكاف، فعند الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء أنه لا حد له‏.‏ واختلف عن مالك في ذلك فقيل ثلاثة أيام، وقيل يوم وليلة‏.‏ وقال ابن القاسم عنه أقله عشرة أيام، وعند البغداديين من أصحابه أن العشرة استحباب وأن أقله يوم وليلة‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر؛ أما القياس فإنه من اعتقد أن من شرطه الصوم قال‏:‏ لا يجوز اعتكاف ليلة، وإذا لم يجز اعتكافه ليلة فلا أقل من يوم وليلة، إذ انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل‏.‏

وأما الأثر المعارض فما خرجه البخاري من ‏"‏أن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره‏"‏ ولا معنى للنظر مع الثابت من مذهب الأثر‏.‏ وأما اختلافهم في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف إلى اعتكافه إذا نذر أياما معدودة أو يوما واحدا، فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة اتفقوا على أنه من نذر اعتكاف شهر أنه يدخل المسجد قبل غروب الشمس‏.‏ وأما من نذر أن يعتكف يوما فإن الشافعي قال‏:‏ من أراد أن يعتكف يوما واحدا دخل قبل طلوع الفجر، وخرج بعد غروبها‏.‏ وأما مالك فقوله في اليوم والشهر واحد بعينه، وقال زفر والليث‏:‏ يدخل قبل طلوع الفجر، واليوم والشهر عندهما سواء‏.‏ وفرق أبو ثور بين نذر الليالي والأيام فقال‏:‏ إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام دخل قبل طلوع الفجر، وإذا نذر عشر ليالي دخل قبل غروبها‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ يدخل في اعتكافه بعد صلاة الصبح‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة الأقيسة بعضها بعضا، ومعارضة الأثر لجميعها؛ وذلك أنه من رأى أن أول الشهر ليلة واعتبر الليالي قال‏:‏ يدخل قبل مغيب الشمس، ومن لم يعتبر الليالي قال‏:‏ يدخل قبل الفجر، ومن رأى أن اسم اليوم يقع على الليل والنهار معا أوجب إن نذر يوما أن يدخل قبل غروب الشمس، ومن رأى أنه إنما ينطلق على النهار أوجب الدخول قبل طلوع الفجر، ومن رأى أن اسم اليوم خاص بالنهار واسم الليل بالليل فرق بين أن ينذر أياما أو ليالي‏.‏

والحق أن اسم اليوم في كلام العرب قد يقال على النهار مفردا، وقد يقال على الليل والنهار معا، لكن يشبه أن يكون دلالته الأولى إنما هي على النهار، ودلالته على الليل بطريق اللزوم‏.‏ وأما الأثر المخالف لهذه الأقيسة كلها فهو ما خرجه البخاري وغيره من أهل الصحيح عن عائشة قالت ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي كان يعتكف فيه‏"‏‏.‏ وأما وقت خروجه، فإن مالكا رأى أن يخرج المعتكف العشر الأواخر من رمضان من المسجد إلى صلاة العيد على جهة الاستحباب، وأنه إن خرج بعد غروب الشمس أجزأه‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ بل يخرج بعد غروب الشمس‏.‏ وقال سحنون وابن الماجشون‏:‏ إن رجع إلى بيته قبل صلاة العيد فس اعتكافه‏.‏ وسبب الاختلاف هل الليلة الباقية هي من حكم العشر أم لا‏؟‏ وأما شروطه فثلاث‏:‏ النية والصيام وترك مباشرة النساء‏.‏ أما النية فلا أعلم فيها اختلافا‏.‏ وأما الصيام فإنهم اختلفوا فيه؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنه لا اعتكاف إلا بالصوم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الاعتكاف جائز بغير صوم، وبقول مالك قال من الصحابة ابن عمر وابن عباس على خلاف عنه في ذلك، وبقول الشافعي قال علي وابن مسعود‏.‏ والسبب في اختلافهم أن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وقع في رمضان فمن رأى أن الصوم المقترن باعتكافه هو شرط في الاعتكاف وإن لم يكن الصوم للاعتكاف نفسه قالا‏:‏ لابد من الصوم مع الاعتكاف، ومن رأى أنه إنما اتفق ذلك اتفاقا لا على أن ذلك كان مقصودا له عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف قال‏:‏ ليس الصوم من شرطه‏.‏

ولذلك أيضا سبب آخر وهو اقترانه في آية واحدة‏.‏ وقد احتج الشافعي بحديث عمر المتقدم وهو أنه أمره عليه الصلاة والسلام أن يعتكف ليلة والليل ليس بمحل للصيام‏.‏ واحتجت المالكية بما روى عبد الرحمن بن إسحاق عن عروة عن عائشة أنها قالت‏:‏ السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا إلى ما لابد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع‏.‏ قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ لم يقل أحد في حديث عائشة‏:‏ هذه السنة إلا عبد الرحمن بن إسحق، ولا يصح هذا الكلام عندهم إلا من قول الزهري، وإن كان الأمر هكذا بطل أن يجري مجرى المسند‏.‏ وأما الشرط الثالث وهي المباشرة فإنهم أجمعوا على أن المعتكف إذا جامع عامدا بطل اعتكافه إلا ما روي عن ابن لبابة في غير المسجد، واختلفوا فيه إذا جامع ناسيا، واختلفوا في فساد الاعتكاف بما دون الجماع من القبلة واللمس، فرأى مالك أن جميع ذلك يفسد الاعتكاف‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ليس في المباشرة فساد إلا أن ينزل، وللشافعي قولان‏:‏ أحدهما مثل قول مالك‏.‏ والثاني مثل قول أبي حنيفة‏.‏ وسبب اختلافهم هل الاسم المتردد بين الحقيقة والمجاز له عموم أم لا‏؟‏ وهو أحد أنواع الاسم المشترك، فمن ذهب إلى أن له عموما قال‏:‏ إن المباشرة في قوله تعالى ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ ينطلق على الجماع وعلى ما دونه، ومن لم ير عموما وهو الأشهر الأكثر قال‏:‏ يدل إما على الجماع وإما على ما دون الجماع، فإذا قلنا إنه يدل على الجماع بإجماع بطل أن يدل على غير الجماع، لأن الاسم الواحد لا يدل على الحقيقة والمجاز معا، ومن أجرى الإنزال بمنزلة الوقاع فلأنه في معناه، ومن خالف فلأنه لا ينطلق عليه الاسم حقيقة، واختلفوا فيما يجب على المجامع فقال الجمهور‏:‏ لا شيء عليه، وقال قوم‏:‏ عليه كفارة، فبعضهم قال‏:‏ كفارة المجامع في رمضان، وبه قال الحسن، وقال قوم‏:‏ يتصدق بدينارين، وبه قال مجاهد، وقال قوم‏:‏ يعتق رقبة، فإن لم يجد أهدى بدنة، فإن لم يجد تصدق بعشرين صاعا من تمر‏.‏

وأصل الخلاف هل يجوز القياس في الكفارة أم لا‏؟‏ والأظهر أنه لا يجوز، واختلفوا في مطلق النذر بالاعتكاف هل من شرطه التتابع أم لا‏؟‏ فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ ذلك من شرطه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ ليس من شرطه ذلك‏.‏ والسبب في اختلافهم قياسه على نذر الصوم المطلق‏.‏ وأما موانع الاعتكاف، فاتفقوا على أنها ما عدا الأفعال التي هي أعمال المعتكف وأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو ما هو في معناها مما تدعو إليه الضرورة لما ثبت من حديث عائشة أنها قالت ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‏"‏ واختلفوا إذا خرج لغير حاجة متى ينقطع اعتكافه، فقال الشافعي‏:‏ ينتقض اعتكافه عند أول خروجه وبعضهم رخص في الساعة، وبعضهم في اليوم، واختلفوا هل له أن يدخل بيتا غير بيت مسجده‏؟‏ فرخص فيه بعضهم وهم الأكثر مالك والشافعي وأبو حنيفة‏.‏ ورأى بعضهم أن ذلك يبطل اعتكافه، وأجاز مالك له البيع والشراء وأن يلي عقد النكاح وخالفه غيره في ذلك‏.‏ وسبب اختلافهم أنه ليس في ذلك حد منصوص عليه إلا الاجتهاد وتشبيه ما لم يتفقوا عليه بما اتفقوا عليه‏.‏ واختلفوا أيضا هل للمعتكف أن يشترط فعل شيء مما يمنعه الاعتكاف فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه مثل ذلك أن يشترط شهود جنازة أو غير ذلك‏؟‏ فأكثر الفقهاء على أن شرطه لا ينفعه، وأنه إن فعل بطل اعتكافه، وقال الشافعي‏:‏ ينفعه شرطه‏.‏ والسبب في اختلافهم تشبيههم الاعتكاف بالحج في أن كليهما عبادة مانعة لكثير من المباحات والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث حبستني‏"‏ لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج، فالقياس فيه ضعيف عند الخصم المخالف له‏.‏ واختلفوا إذا اشترط التتابع في النذر، أو كان التتابع لازما، فمطلق النذر عند من يرى ذلك ما هي الأشياء التي إذا قطعت الاعتكاف أوجبت الاستئناف أو البناء مثل المرض، فإن منهم من قال‏:‏ إذا قطع المرض الاعتكاف بنى المعتكف وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، ومنهم من قال‏:‏ يستأنف الاعتكاف، وهو قول الثوري‏.‏

ولا خلاف فيما أحسب عندهم أن الحائض تبنى، واختلفوا هل يخرج من المسجد أم ليس يخرج، وكذلك اختلفوا إذا جن المعتكف أو أغمي عليه هل يبنى أو ليس يبنى بل يستقل‏.‏ والسبب في اختلافهم في هذا الباب أنه ليس في هذه الأشياء شيء محدود من قبل السمع، فيقع التنازع من قبل تشبيههم ما اتفقوا عليه فيما اختلفوا فيه، أعني بما اتفقوا عليه في هذه العبادة، أو في العبادات التي من شرطها التتابع مثل صوم النهار وغيره‏.‏ والجمهور على أن الاعتكاف المتطوع إذا قطع لغير عذر أنه يجب فيه القضاء لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف فاعتكف عشرا من شوال وأما الواجب بالنذر فلا خلاف في قضائه فيما أحسب، والجمهور على أن من أتى كبيرة انقطع اعتكافه، فهذه جملة ما رأينا أن نثبته في أصول هذا الباب وقواعده، والله الموفق والمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما‏.‏

 كتاب الحج‏.‏

-بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما‏.‏

والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أجناس‏:‏ الجنس الأول‏.‏ يشتمل على الأشياء التي تجري من هذه العبادة مجرى المقدمات التي تجب معرفتها لعمل هذه العبادة‏.‏ الجنس الثاني‏:‏ في الأشياء التي تجري منها مجرى الأركان، وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة‏.‏ الجنس الثالث‏:‏ في الأشياء التي تجري منها مجرى الأمور اللاحقة، وهي أحكام الأفعال، وذلك أن كل عبادة فإنها توجد مشتملة على هذه الثلاثة الأجناس‏.‏

 الجنس الأول‏.‏

-وهذا الجنس يشتمل على شيئين‏:‏ على معرفة الوجوب وشروطها، وعلى من يجب ومتى يجب‏؟‏ فأما وجوبه فلا خلاف فيه لقوله سبحانه ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏ وأما شروط الوجوب فإن الشروط قسمان‏:‏ شروط صحة، وشروط وجوب‏.‏ فأما شروط الصحة فلا خلاف بينهم أن من شروطه الإسلام، إذ لا يصح حج من ليس بمسلم‏.‏ واختلفوا في صحة وقوعه من الصبي، فذهب مالك والشافعي إلى جواز ذلك، ومنع منه أبو حنيفة‏.‏ وسبب الخلاف معارضة الأثر في ذلك للأصول، وذلك أن من أجاز ذلك أخذ فيه بحديث ابن عباس المشهور، وخرجه البخاري ومسلم‏.‏ وفيه ‏"‏أن المرأة رفعت إليه عليه الصلاة والسلام صبيا فقالت‏:‏ ألهذ حج يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم ولك أجر‏"‏ ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل، وكذلك اختلف أصحاب مالك في صحة وقوعها من الطفل الرضيع، وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏من السبع إلى العشر‏"‏ وأما شروط الوجوب فيشترط فيها الإسلام على القول بأن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة في ذلك لقوله تعالى ‏{‏من استطاع إليه سبيلا‏}‏ وإن كان في تفصيل ذلك اختلاف وهي بالجملة تتصور على نوعين‏:‏ مباشرة ونيابة‏.‏ فأما المباشر فلا خلاف عندهم أن من شرطها الاستطاع بالبدن والمال مع الأمن‏.‏ واختلفوا في تفصيل الاستطاعة بالبدن والمال، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد‏:‏ وهو قول ابن عباس وعمر بن الخطاب إن من شرط ذلك الزاد والراحلة‏.‏ وقال مالك‏:‏ من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في حقه بل يجب عليه الحج، وكذلك ليس الزاد عنده من شرط الاستطاعة إذا كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه ولو بالسؤال‏.‏ والسبب في هذا الخلاف معارضة الأثر الوارد في تفسير الاستطاعة لعموم لفظها، وذلك أنه ورد أثر عنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏أنه سئل ما الاستطاعة فقال‏:‏ الزاد والراحلة‏"‏ فحمل أبو حنيفة والشافعي ذلك على كل مكلف، وحمله مالك على من لا يستطيع المشي ولا له قوة على الاكتساب في طريقه، وإنما اعتقد الشافعي هذا الرأي لأن من مذهبه إذا ورد الكتاب مجملا، فوردت السنة بتفسير ذلك المجمل أنه ليس ينبغي العدول عن ذلك التفسير‏.‏ وأما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة، فعند مالك وأبي حنيفة أنه لا تلزم النيابة إذا استطلعت مع العجز عن المباشرة، وعن الشافعي أنها تلزم فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدر هو ببدنه عنه غيره بماله وإن وجد من يحج عنه بماله وبدنه من أخ أو قريب سقط ذلك عنه، وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب، وهو الذي لا يثبت على الراحلة، وكذلك عنده الذي يأتيه الموت ولم يحج يلزم ورثته عنده أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه‏.‏ وسبب الخلاف في هذا معارضة القياس للأثر، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد، فإنه لا يصلي أحد عن أحد باتفاق ولا يزكي أحد عن أحد‏.‏

وأما الأثر المعارض لهذا فحديث ابن عباس المشهور، خرجه الشيخان، وفيه ‏"‏أن امرأة من خثعم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏"‏ وذلك في حجة الوداع، فهذا في الحي‏.‏ وأما في الميت فحديث ابن عباس أيضا خرجه البخاري قال ‏"‏جاءت امرأة من جهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إن أمي نذرت الحج فماتت أفأحج عنها‏؟‏ قال‏:‏ حجي عنها، أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيته‏؟‏ دين الله أحق بالقضاء‏"‏ ولا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير تطوعا، وإنما الخلاف في وقوعه فرضا‏.‏ واختلفوا من هذا الباب في الذي يحج عن غيره سواء كان حيا أو ميتا هل من شرطه أن يكون قد حج عن نفسه أم لا‏؟‏ فذهب بعضهم إلى أن ذلك ليس من شرطه، وإن كان قد أدى الفرض عن نفسه فذلك أفضل، وبه قال مالك فيمن يحج عن الميت، لأن الحج عنده عن الحي لا يقع‏.‏ وذهب آخرون إلى أن من شرطه أن يكون قد قضى فريضة نفسه، وبه قال الشافعي وغيره أنه إن حج عن غيره من لم يقض فرض نفسه انقلب إلى فرض نفسه، وعمدة هؤلاء حديث ابن عباس ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة، قال‏:‏ ومن شبرمة‏؟‏ قال‏:‏ أخ لي، أو قال قريب لي، قال‏:‏ أفحججت عن نفسك‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة‏"‏ والطائفة الأولى عللت هذا الحديث بأنه قد روي موقوفا على ابن عباس‏.‏ واختلفوا من هذا الباب في الرجل يؤاجر نفسه في الحج فكره ذلك مالك والشافعي وقالا‏:‏ إن وقع ذلك جاز ولم يجز ذلك أبو حنيفة، وعمدته أنه قربة إلى الله عز وجل فلا تجوز الإجارة عليه، وعمدة الطائفة الأولى إجماعهم على جواز الإجارة في كتب المصاحف وبناء المساجد، وهي قربة‏.‏ والإجارة في الحج عند مالك نوعان‏:‏ أحدهما الذي يسميه أصحابه على البلاغ، وهو الذي يؤاجر نفسه على ما يبلغه من الزاد والراحلة، فإن نقص ما أخذه عن البلاغ وفاه ما يبلغه، وإن فضل عن ذلك شيء رده‏.‏

والثاني على سنة الإجارة وإن نقص شيء وفاه من عنده وإن فضل شيء فله‏.‏ والجمهور على أن العبد لا يلزمه الحج حتى يعتق، وأوجبه عليه بعض أهل الظاهر، فهذه معرفة على من تجب هذه الفريضة وممن تقع‏.‏ وأما متى تجب فإنهم اختلفوا هل هي على الفور أو على التراخي‏؟‏ والقولان متأولان على مالك وأصحابه، والظاهر عند المتأخرين من أصحابه أنها على التراخي وبالقول إنها على الفور قال البغداديون من أصحابه‏.‏ واختلف في ذلك قول أبي حنيفة وأصحابه، والمختار عندهم أنه على الفور‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ هو على التوسعة، وعمدة من قال هو على التوسعة أن الحج فرض قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم بسنين، فلو كان على الفور لما أخره النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أخره لعذر لبينه، وحجة الفريق الثاني أنه لما كان مختصا بوقت كان الأصل تأثيم تاركه حتى يذهب الوقت، أصله وقت الصلاة، والفرق عند الفريق الثاني بينه وبين الأمر بالصلاة أنه لا يتكرر وجوبه بتكرار الوقت، والصلاة يتكرر وجوبها بتكرار الوقت‏.‏

وبالجملة فمن شبه أول وقت من أوقات الحج الطارئة على المكلف المستطيع بأول الوقت من الصلاة قال‏:‏ هو على التراخي، ومن شبهه بآخر الوقت من الصلاة قال‏:‏ هو على الفور، ووجه شبهه بآخر الوقت أنه ينقضي بدخول وقت لا يجوز فيه فعله كما ينقضي وقت الصلاة بدخول وقت ليس يكون فيه المصلي مؤديا، ويحتج هؤلاء بالغرر الذي يلحق المكلف بتأخيره إلى عام آخر بما يغلب على الظن من مكان وقوع الموت في مدة من عام، ويرون أنه بخلاف تأخير الصلاة من أول الوقت إلى آخره، لأن الغالب أنه لا يموت أحد في مقدار ذلك الزمان إلا نادرا، وربما قالوا‏:‏ إن التأخير في الصلاة يكون مع مصاحبة الوقت الذي يؤدي فيه الصلاة، والتأخير ههنا يكون مع دخول وقت لا تصح فيه العبادة، فهو ليس يشبهه في هذا الأمر المطلق، وذلك أن الأمر عند من يقول إنه على التراخي ليس يؤدي التراخي فيه إلى دخول وقت لا يصح فيه وقوع المأمور فيه كما يؤدي التراخي في الحج إذا دخل وقته فأخره المكلف إلى قابل، فليس الاختلاف في هذه المسألة من باب اختلافهم في مطلق الأمر هل هو على الفور أو على التراخي كما قد يظن‏.‏ واختلفوا من هذا الباب هل من شرط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو ذو محرم منها يطاوعها على الخروج معها إلى السفر للحج‏؟‏ فقال مالك والشافعي‏:‏ ليس من شرط الوجوب ذلك، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة‏.‏

وقال أبو حنيفة وجماعة‏:‏ وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب‏.‏ وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج والسفر إليه للنهي عن سفر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم‏.‏ وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم‏"‏ فمن غلب عموم الأمر قال‏:‏ تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بهذا الحديث أو رأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال‏:‏ لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم، فقد قلنا في وجوب هذا النسك الذي هو الحج وبأي شيء يجب وعلى من يجب ومتى يجب‏؟‏ وقد بقي من هذا الباب القول في حكم النسك الذي هو العمرة، فإن قوما قالوا‏:‏ إنه واجب، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد والثوري والأوزاعي، وهو قول ابن عباس من الصحابة وابن عمر وجماعة من التابعين‏.‏ وقال مالك وجماعة‏:‏ هي سنة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ هي تطوع، وبه قال أبو ثور وداود، فمن أوجبها احتج بقوله تعالى ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ وبآثار مروية، منها ما روي عن ابن عمر عن أبيه قال ‏"‏دخل أعرابي حسن الوجه أبيض الثياب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما الإسلام يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة‏"‏ وذكر عبد الرزاق قال‏:‏ أخبرنا معمر عن قتادة أنه كان يحدث أنه ‏"‏لما نزلت ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ باثنين حجة وعمرة فمن قضاها فقد قضى الفريضة‏"‏ وروي عن زيد بن ثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت‏"‏ وروي عن ابن عباس ‏"‏العمرة واجبة‏"‏ وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما حجة الفريق الثاني، وهم الذين يرون أنها ليست واجبة، فالأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعديد فرائض الإسلام من غير أن يذكر منها العمرة مثل حديث ابن عمر ‏"‏بني الإسلام على خمس‏"‏ فذكر الحج مفردا‏"‏ ومثل حديث السائل عن الإسلام، فإن في بعض طرقه ‏"‏وأن يحج البيت‏"‏ وربما قالوا إن الأمر بالإتمام ليس يقتضي الوجوب، لأن هذا يخص السنن والفرائض أعني إذا شرع فيها أن تتم ولا تقطع، واحتج هؤلاء أيضا أعني من قال إنها سنة بآثار، منها حديث الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال ‏"‏سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي‏؟‏ قال‏:‏ لا ولأن تعتمر خير لك‏"‏ قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ وليس هو حجة فيما انفرد به، وربما احتج من قال إنها تطوع بما روي عن أبي صالح الحنفي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏الحج واجب والعمرة تطوع‏"‏ وهو حديث منقطع‏.‏ فسبب الخلاف في هذا هو تعارض الآثار في هذا الباب، وتردد الأمر بالتمام بين أن يقتضي الوجوب أم لا يقتضيه‏.‏

 القول في الجنس الثاني‏.‏

-وهو تعريف أفعال هذه العبادة في نوع نوع منها والتروك المشترطة فيها‏.‏ وهذه العبادة كما قلنا صنفان‏:‏ حج وعمرة، والحج على ثلاثة أصناف‏:‏ إفراد وتمتع وقران، وهي كلها تشتمل على أفعال محدودة في أمكنة محدودة وأوقات محدودة، ومنها فرض، ومنها غير فرض، وعلى تروك تشترط في تلك الأفعال وكل من هذه أحكام محدودة إما عند الإخلال بها، وإما عند الطوارئ المانعة منها، فهذا الجنس ينقسم أولا إلى القول في الأفعال وإلى القول في التروك‏.‏ وأما الجنس الثالث فهو الذي يتضمن القول في الأحكام فلنبدأ بالأفعال، وهذه منها ما تشترك فيه هذه الأربعة الأنواع من النسك، أعني أصناف الحج الثلاث، والعمرة، ومنها ما يختص بواحد واحد منها، فلنبدأ من القول فيها بالمشترك ثم نصير إلى ما يخص واحدا واحدا منها، فنقول‏:‏ إن الحج والعمرة أول أفعالهما الفعل الذي يسمى الإحرام‏.‏

 القول في شروط الإحرام‏.‏

-والإحرام شروطه الأول المكان والزمان، أما المكان فهو الذي يسمى مواقيت الحج، فلنبدأ بهذا فنقول‏:‏ إن العلماء بالجملة مجمعون على أن المواقيت التي منها يكون الإحرام، أما لأهل المدينة فذو الحليفة، وأما لأهل الشام فالجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وغيره‏.‏ واختلفوا في ميقات أهل العراق فقال جمهور فقهاء الأمصار ميقاتهم من ذات عرق‏.‏ وقال الشافعي والثوري‏:‏ إن أهلوا من العقيق كان أحب‏.‏ واختلفوا فيمن أقته لهم فقالت طائفة‏:‏ عمر ابن الخطاب‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ بل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أقت لأهل العراق ذات عرق والعقيق‏.‏ وروي ذلك من حديث جابر وابن عباس وعائشة‏.‏ وجمهور العلماء على أن من يخطئ هذه وقصده الإحرام فلم يحرم إلا بعدها أن عليه دما، وهؤلاء منهم من قال‏:‏ إن رجع إلى الميقات فأحرم منه سقط عنه الدم ومنهم الشافعي‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لا يسقط عنه الدم وإن رجع، وبه قال مالك‏.‏ وقال قوم‏:‏ ليس عليه دم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إن لم يرجع إلى الميقات فسد حجه وأنه يرجع إلى الميقات فيهل منه بعمرة وهذا يذكر في الأحكام‏.‏ وجمهور العلماء على أن من كان منزله دونهن فميقات إحرامه من منزله‏.‏ واختلفوا هل الأفضل إحرام الحاج منهن أو من منزله إذا كان منزله خارجا منهن‏؟‏ فقال قوم‏:‏ الأفضل له من منزله، والإحرام منها رخصة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة‏.‏ وقال مالك وإسحاق وأحمد‏:‏ إحرامه من المواقيت أفضل، وعمدة هؤلاء الأحاديث المتقدمة، وأنها السنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أفضل‏.‏ وعمدة الطائفة الأخرى أن الصحابة قد أحرمت من قبل الميقات ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وغيرهم قالوا‏:‏ وهم أعرف بالسنة، وأصول أهل الظاهر تقتضي أن لا يجوز الإحرام إلا من الميقات إلا أن يصح إجماع على خلافه‏.‏ واختلفوا فيمن ترك الإحرام من ميقاته وأحرم من ميقات آخر غير ميقاته، مثل أن يترك أهل المدينة الإحرام من ذي الحليفة ويحرموا من الجحفة، فقال قوم‏:‏ عليه دم، وممن قال به مالك وبعض أصحابه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ليس عليه شيء‏.‏ وسبب الخلاف هل هو من النسك الذي يجب في تركه الدم أم لا‏؟‏ ولا خلاف أنه لا يلزم الإحرام من مر بهذه المواقيت ممن أراد الحج أوالعمرة‏.‏ وأما من لم يردهما ومر بهما فقال قوم‏:‏ كل من مر بهما يلزمه الإحرام إلا من يكثر ترداده مثل الحطابين وشبههم، وبه قال مالك‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يلزم الإحرام بها إلا لمريد الحج أو العمرة، وهذا كله لمن ليس من أهل مكة‏.‏ وأما أهل مكة فإنهم يحرمون بالحج منها، أو بالعمرة يخرجون إلى الحل ولا بد‏.‏ وأما متى يحرم بالحج أهل مكة فقيل إذا رأوا الهلال، وقيل إذا خرج الناس إلى منى فهذا هو ميقات المكان المشترط لأنواع هذه العبادة‏.‏

 القول في ميقات الزمان‏.‏

-وأما ميقات الزمان فهو محدود أيضا في أنواع الحج الثلاث وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة باتفاق‏.‏ وقال مالك‏:‏ الثلاثة الأشهر كلها محل للحج‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الشهران وتسع من ذي الحجة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ عشر فقط، ودليل قول مالك عموم قوله سبحانه وتعالى ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة أصله انطلاقه على جميع أيام شوال وذي القعدة‏.‏ ودليل الفريق الثاني انقضاء الإحرام قبل تمام الشهر الثالث بانقضاء أفعاله الواجبة‏.‏ وفائدة الخلاف تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، إن أحرم بالحج قبل أشهر الحج كرهه مالك ولكن صح إحرامه عنده‏.‏ وقال غيره‏:‏ لا يصح إحرامه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ ينعقد إحرامه إحرام عمرة، فمن شبهه بوقت الصلاة قال‏:‏ يقع قبل الوقت، ومن اعتمد عموم قوله تعالى ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ قال متى أحرم انعقد إحرامه لأنه مأمور بالإتمام، وربما شبهوا الحج في هذا المعنى بالعمرة، وشبهوا ميقات الزمان بميقات العمرة‏.‏ فأما مذهب الشافعي فهو مبني على أن من التزم عبادة في وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير، مثل أن يصوم نذرا في أيام رمضان، وهذا الأصل فيه اختلاف في المذهب‏.‏ وأما العمرة فإن العلماء اتفقوا على جوازها في كل أوقات السنة لأنها كانت في الجاهلية لا تصنع في أيام الحج، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏"‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تجوز في كل السنة إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فإنها تكره‏.‏ واختلفوا في تكريرها في السنة الواحدة مرارا، فكان مالك يستحب عمرة في كل سنة، ويكره وقوع عمرتين عنده وثلاثا في السنة الواحدة‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ لا كراهية في ذلك فهذا هو القول في شروط الإحرام الزمانية والمكانية‏.‏ وينبغي بعد ذلك أن نصير إلى القول في الإحرام، وقبل ذلك ينبغي أن نقول في تروكه، ثم نقول بعد ذلك في الأفعال الخاصة بالمحرم إلى حين إحلاله وهي أفعال الحج كلها وتروكه، ثم نقول في أحكام الإخلال بالتروك والأفعال ولنبدأ بالتروك‏.‏

 القول في التروك‏.‏

-وهو ما يمنع الإحرام من الأمور المباحة للحلال‏.‏

والأصل من هذا الباب ما ثبت من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ‏"‏أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس‏"‏ فاتفق العلماء على بعض الأحكام الواردة في هذا الحديث واختلفوا في بعضها، فمما اتفقوا عليه أنه لا يلبس المحرم قميصا ولا شيئا مما ذكر في هذا الحديث ولا ما كان في معناه من مخيط الثياب وأن هذا مخصوص بالرجال، أعني تحريم لبس المخيط، وأنه لا بأس للمرأة بلبس القميص والدرع والسراويل والخفاف والخمر‏.‏ واختلفوا فيمن لم يجد غير السراويل هل له لباسها‏؟‏ فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى‏.‏ وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود‏:‏ لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا، وعمدة مذهب مالك ظاهر حديث ابن عمر المتقدم قال‏:‏ ولو كان في ذلك رخصة لاستثناها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استثنى في لبس الخفين‏.‏ وعمدة الطائفة الثانية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين‏"‏ وجمهور العلماء على إجازة لباس الخفين مقطوعين لمن لم يجد النعلين‏.‏ وقال أحمد‏:‏ جائز لمن لم يجد النعلين أن يلبس الخفين غير مقطوعين أخذا بمطلق حديث ابن عباس‏.‏ وقال عطاء‏:‏ في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد‏.‏ واختلفوا فيمن لبسهما مقطوعين مع وجود النعلين، فقال مالك‏:‏ عليه الفدية، وبه قال أبو ثور‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا فدية عليه، والقولان عن الشافعي، وسنذكر هذا في الأحكام‏.‏ وأجمع العلماء على أن المحرم لا يلبس الثوب المصبوغ بالورس والزعفران لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر ‏"‏لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس‏"‏

واختلفوا في المعصفر فقال مالك‏:‏ ليس به بأس فإنه ليس بطيب‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ هو طيب وفيه الفدية، وحجة أبي حنيفة ما خرجه مالك عن علي ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس القسي وعن لبس المعصفر‏"‏ وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال إليها كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت ‏"‏كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قبل رءوسنا، وإذا جاوز الركب رفعناه‏"‏ ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت ‏"‏كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق‏"‏‏.‏ واختلفوا في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم على أنه لا يخمر رأسه، فروى مالك عن ابن عمر أن ما فوق الذقن من الرأس لا يخمره المحرم، وإليه ذهب مالك‏.‏ وروي عنه أنه إن فعل ذلك ولم ينزعه مكانه افتدى‏.‏ وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو داود وأبو ثور يخمر المحرم وجهه إلى الحاجبين‏.‏ وروي من الصحابة عن عثمان وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص‏.‏ واختلفوا في لبس القفازين للمرأة فقال مالك‏:‏ إن لبست المرأة القفازين افتدت، ورخص فيه الثوري، وهو مروي عن عائشة‏.‏ والحجة لمالك ما خرجه أبو داود عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن النقاب والقفازين وبعض الرواة يرويه موقوفا عن ابن عمر، وصححه بعض رواة الحديث، أعني رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا هو مشهور اختلافهم واتفاقهم في اللباس، وأصل الخلاف في هذا كله اختلافهم في قياس بعض المسكوت عنه على المنطوق به واحتمال اللفظ المنطوق به وثبوته أو لا ثبوته، وأما الشيء الثاني من المتروكات فهو الطيب، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن الطيب كله يحرم على المحرم بالحج والعمرة في حال إحرامه‏.‏

واختلفوا في جوازه للمحرم عند الإحرام قبل أن يحرم لما يبقى من أثره عليه بعد الإحرام، فكرهه قوم وأجازه آخرون، وممن كرهه مالك، ورواه عن عمر بن الخطاب، وهو قول عثمان وابن عمر وجماعة من التابعين‏.‏ وممن أجازه أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وداود، والحجة لمالك رحمه الله من جهة الأثر حديث صفوان ابن يعلى ثبت في الصحيحين، وفيه ‏"‏أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجبة مضمخة بطيب، فقال‏:‏ يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب‏؟‏ فأنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أفاق قال‏:‏ أين السائل عن العمرة أنفا‏؟‏ فالتمس الرجل فأتى به، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع ما شئت في عمرتك كما تصنع في حجتك‏"‏ اختصرت الحديث، وفقهه هو الذي ذكرت‏.‏

وعمدة الفريق الثاني ما رواه مالك عن عائشة أنها قالت ‏"‏كنت أطيب رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت‏"‏ واعتل الفريق الأول بما روي عن عائشة أنها قالت ‏{‏وقد بلغها إنكار ابن عمر تطيب المحرم قبل إحرامه‏}‏ ‏"‏يرحم الله أبا عبد الرحمن طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه ثم أصبح محرما‏"‏ قالوا‏:‏ وإذا طاف على نسائه اغتسل، فإنما يبقى عليه أثر ريح الطيب لا جرمة نفسه، قالوا‏:‏ ولما كان الإجماع قد انعقد على أن كل ما لا يجوز للمحرم ابتداؤه وهو محرم، مثل لبس الثياب وقتل الصيد لا يجوز له استصحابه وهو محرم، فوجب أن يكون الطيب كذلك‏.‏ فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا الحكم‏.‏ وأما المتروك الثالث فهو مجامعة النساء، وذلك أنه أجمع المسلمون على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم لقوله تعالى ‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏ ‏.‏ وأما الممنوع الرابع وهو إلقاء التفث وإزالة الشعر وقتل القمل، ولكن اتفقوا على أنه يجوز له غسل رأسه من الجنابة، واختلفوا في كراهية غسله من غير الجنابة، فقال الجمهور‏:‏ لابأس بغسله رأسه‏.‏

وقال مالك‏:‏ بكراهية ذلك، وعمدته أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من الاحتلام‏.‏ وعمدة الجمهور ما رواه مالك عن عبد الله بن جبير ‏"‏أن ابن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله‏:‏ يغسل المحرم رأسه، وقال المسور بن مخرمة‏:‏ لا يغسل المحرم رأسه، قال‏:‏ فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري قال‏:‏ فوجدته يغتسل بين القرنين وهو مستتر بثوب، فسلمت عليه فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فقلت عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم، فوضع أبو أيوب يده على الثوب فتطأطأ حتى بدا لي رأسه ثم قال لأنسان يصب عليه اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال‏:‏ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل‏"‏ وكان عمر يغسل رأسه وهو محرم ويقول‏:‏ ‏"‏ما يزيده الماء إلا شعثا‏"‏ رواه مالك في الموطأ، وحمل مالك حديث أبي أيوب على غسل الجنابة والحجة له إجماعهم على أن المحرم ممنوع من قتل القمل ونتف الشعر وإلقاء التفث وهو الوسخ، والغاسل رأسه هو إما أن يفعل هذه كلها أو بعضها‏.‏ واتفقوا على منع غسله رأسه بالخطمى‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ إن فعل ذلك افتدى‏.‏ وقال أبو ثور وغيره‏:‏ لا شيء عليه‏.‏ واختلفوا في الحمام فكان مالك يكره ذلك، ويرى أن على من دخله الفدية‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وداود‏:‏ لابأس بذلك‏.‏ وروي عن ابن عباس دخول الحمام وهو محرم من طريقين، والأحسن أن يكره دخوله لأن المحرم منهي عن إلقاء التفث‏.‏ وأما المحظور الخامس فهو الاصطياد، وذلك أيضا مجمع عليه لقوله سبحانه وتعالى ‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ وأجمعوا على أنه لا يجوز له صيده ولا أكل ما صاد هو منه، واختلفوا إذا صاده حلال هل يجوز للمحرم أكله‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏ قول إنه يجوز له أكله على الإطلاق، وبه قال أبو حنيفة، وهو قول عمر ابن الخطاب والزبير‏.‏

وقال قوم‏:‏ هو محرم عليه على كل حال وهو قول ابن عباس وعلي وابن عمر، وبه قال الثوري‏.‏ وقال مالك‏:‏ ما لم يصد من أجل المحرم أو من أجل قوم محرمين فهو حلال، وما صيد من أجل محرم فهو حرام على المحرم‏.‏ وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، فأحدها ما خرجه مالك من حديث أبي قتادة ‏:‏ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانوا ببعض طرق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه فسألهم رمحه فأبوا عليه، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فقال‏:‏ إنما هي طعمة أطعمكموها الله‏"‏ وجاء أيضا في معناه حديث طلحة بن عبيد الله ذكره النسائي أن عبد الرحمن التميمي قال‏:‏ كنا مع طلحة ابن عبيد الله ونحن محرمون، فأهدى له ظبي وهو راقد، فأكل بعضنا، فاستيقظ طلحة فوافق على أكله وقال‏:‏ أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والحديث الثاني حديث ابن عباس خرجه أيضا مالك ‏"‏أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال‏:‏ إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم‏"‏ وللاختلاف سبب آخر، وهو هل يتعلق النهي عن الأكل بشرط القتل، أو يتعلق بكل واحد منهما النهي عن الانفراد‏؟‏ فمن أخذ بحديث أبي قتادة قال‏:‏ إن النهي إنما يتعلق بالأكل مع القتل، ومن أخذ بحديث ابن عباس قال‏:‏ النهي يتعلق بكل واحد منهما على انفراده، فمن ذهب في هذه الأحاديث مذهب الترجيح قال‏:‏ إما بحديث أبي قتادة، وإما بحديث ابن عباس، ومن جمع بين الأحاديث قال بالقول الثالث قالوا‏:‏ والجمع أولى، وأكدوا ذلك بما روي عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم‏"‏

واختلفوا في المضطر هل يأكل الميتة أو يصيد في الحرم‏؟‏ فقال مالك وأبو حنيفة والثوري وزفر وجماعة‏:‏ إذا اضطر أكل الميتة ولحم الخنزير دون الصيد‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يصيد ويأكل وعليه الجزاء، والأول أحسن للذريعة‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ أقيس لأن تلك محرمة لعينها والصيد محرم لغرض من الأغراض، وما حرم لعلة أخف مما حرم لعينه، وما هو محرم لعينه أغلظ، فهذه الخمسة اتفق المسلمون على أنها من محظورات الإحرام،

واختلفوا في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي والليث والأوزاعي‏:‏ لا ينكح المحرم ولا ينكح، فإن نكح فالنكاح باطل، وهو قول عمر وعلي بن أبي طالب وابن عمر وزيد ابن ثابت‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ لا بأس بأن ينكح المحرم أو أن ينكح‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك فأحدها ما رواه مالك من حديث عثمان ابن عفان أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب‏"‏ والحديث المعارض لهذا حديث ابن عباس ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم‏"‏ خرجه أهل الصحاح إلا أنه عارضته آثار كثيرة عن ميمونة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال‏"‏ رويت عنها من طرق شتى عن أبي رافع وعن سليمان ابن يسار وهو مولاها، وعن زيد بن الأصم، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن يحمل الواحد على الكراهية والثاني على الجواز، فهذه هي مشهورات ما يحرم على المحرم، وأما متى يحل فسنذكره عند ذكرنا أفعال الحج، وذلك أن المعتمر يحل إذا طاف وسعى وحلق‏.‏ واختلفوا في الحاج على ما سيأتي بعد، وإذ قد قلنا في تروك المحرم فلنقل في أفعاله‏:‏

 القول في أنواع هذا النسك‏.‏

-والمحرمون إما محرم بعمرة مفردة أو محرم بحج فرد، أو جامع بين الحج والعمرة، وهذان ضربان‏:‏ إما متمتع، وإما قارن، فينبغي أولا أن نجرد أصناف هذه المناسك الثلاث ثم نقول ما يفعل المحرم في كلها، وما يخص واحدا واحدا منها إن كان هنالك ما يخص، وكذلك نفعل فيما يعد الإحرام من أفعال الحج إن شاء الله تعالى‏.‏

 القول في شرح أنواع هذه المناسك‏.‏

-فنقول‏:‏ إن الإفراد هو ما يتعرى عن صفات التمتع والقران، فلذلك يجب أن نبدأ أولا بصفة التمتع، ثم نردف ذلك بصفة القران‏.‏

القول في التمتع‏.‏

-فنقول‏:‏ إن العلماء اتفقوا على أن هذا النوع من النسك الذي هو المعنى بقوله سبحانه ‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى حج فما استيسر من الهدى‏}‏ هو أن يهل الرجل بالعمرة في أشهر الحج من الميقات، وذلك إذا كان مسكنه خارجا عن الحرم، ثم يأتي حتى يصل البيت فيطوف لعمرته ويسعى ويحلق في تلك الأشهر بعينها، ثم يحل بمكة، ثم ينشئ الحج في ذلك العام بعينه وفي تلك الأشهر بعينها من غير أن ينصرف إلى بلده إلا ما روي عن الحسن أنه كان يقول هو متمتع وإن عاد إلى بلده ولم يحج‏:‏ أي عليه هدى المتمتع المنصوص عليه في قوله تعالى ‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي‏}‏ لأنه كان يقول عمرة في أشهر الحج متعة‏.‏ وقال طاوس‏:‏ من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى الحج وحج من عامه أنه متمتع‏.‏ واتفق العلماء على أن من لم يكن من حاضري المسجد الحرام فهو متمتع‏.‏ واختلفوا في المكي هل يقع منه التمتع أم لا يقع‏؟‏ والذين قالوا إنه يقع منه اتفقوا على أنه ليس عليه دم لقوله تعالى ‏{‏ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام‏}‏ واختلفوا فيمن هو حاضر المسجد الحرام ممن ليس هو، فقال مالك‏:‏ حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وذي طوى، وما كان مثل ذلك من مكة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ هم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة‏.‏ وقال الشافعي بمصر‏:‏ من كان بينه وبين مكة ليلتان وهو أكمل المواقيت‏.‏ وقال أهل الظاهر‏:‏ من كان ساكن الحرم‏.‏ وقال الثوري‏:‏ هم أهل مكة فقط‏.‏ وأبو حنيفة يقول‏:‏ إن حاضري المسجد الحرام لا يقع منهم التمتع، وكره ذلك مالك‏.‏ وسبب الاختلاف اختلاف ما يدل عليه اسم حاضري المسجد الحرام بالأقل والأكثر، ولذلك لا يشك أن أهل مكة هم حاضري المسجد الحرام كما لا يشك أن من خارج المواقيت ليس منهم فهذا هو نوع التمتع المشهور، ومعنى التمتع أنه تمتع بتحلله بين النسكين وسقوط السفر عنه مرة ثانية إلى النسك الثاني الذي هو الحج، وهنا نوعان من التمتع اختلف العلماء فيهما‏:‏ أحدهما فسخ الحج في عمرة، وهو تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة، فجمهور العلماء يكرهون ذلك من الصدر الأول وفقهاء الأمصار‏.‏

وذهب ابن عباس إلى جواز ذلك، وبه قال أحمد وداود وكلهم متفقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حج بفسخ الحج في العمرة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة‏"‏ وأمره لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله في العمرة، وبهذا تمسك أهل الظاهر، والجمهور رأوا ذلك من باب الخصوص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال ابن الحارث المدني عن أبيه قال ‏"‏قلت يا رسول الله أفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا‏؟‏ قال‏:‏ لنا خاصة‏"‏ وهذا لم يصح عند أهل الظاهر صحة يعارض بها العمل المتقدم‏.‏ وروي عن عمر أنه قال ‏"‏متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما‏:‏ متعة النساء، ومتعة الحج‏"‏ وروي عن عثمان أنه قال‏:‏ متعة الحج كانت لنا وليست لكم‏.‏ وقال أبو ذر‏:‏ ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه في عمرة هذا كله مع ظاهر قوله تعالى ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ ‏.‏ والظاهرية على أن الأصل اتباع فعل الصحابة حتى يدل الدليل من كتاب الله أو سنة ثابتة على أنه خاص‏.‏ فسبب الاختلاف هل فعل الصحابة محمول على العموم أو على الخصوص‏.‏ وأما النوع الثاني من التمتع فهو ما كان يذهب إليه ابن الزبير من أن التمتع الذي ذكره الله هو تمتع المحصر بمرض أو عدو، وذلك إذا خرج الرجل حاجا فحبسه عدو أو أمر تعذر به عليه الحج حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل، ثم يحج ويهدي، وعلى هذا القول ليس يكون التمتع المشهور إجماعا‏.‏ وشذ طاوس أيضا فقال‏:‏ إن المكي إذا تمتع من بلد غير مكة كان عليه الهدي‏.‏ واختلف العلماء فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك، فقال مالك‏:‏ عمرته في الشهر الذي حل فيه، فإن كان حل في أشهر الحج فهو متمتع، وإن كان في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وبقريب منه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري، إلا أن الثوري اشترط أن يوقع طوافه كله في شوال، وبه قال الشافعي‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن طاف ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة في شوال كان متمتعا، وإن كان عكس ذلك لم يكن متمتعا أعني أن يكون طاف أربعة أشواط في رمضان وثلاثة في شوال‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ إذا دخل العمرة في غير أشهر الحج فسواء طاف لها في غير أشهر الحج أو في أشهر الحج لا يكون متمتعا‏.‏

وسبب الاختلاف هل يكون متمتعا بإيقاع إحرام العمرة في أشهر الحج فقط أم بإيقاع الطواف معه‏؟‏ ثم إن كان بإيقاع الطواف معه فهل بإيقاعه كله أم أكثره فأبو ثور يقول‏:‏ لا يكون متمتعا إلا بإيقاع الإحرام في أشهر الحج، لأن بالإحرام تنعقد العمرة‏.‏ والشافعي يقول‏:‏ الطواف هو أعظم أركانها، فوجب أن يكون به متمتعا؛ فالجمهور على أن من أوقع بعضها في أشهر الحج كمن أوقعها كلها، وشروط التمتع عند مالك ستة‏:‏ أحدها أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد‏.‏ والثاني أن يكون ذلك في عام واحد‏.‏ والثالث أن يفعل شيئا من العمرة في أشهر الحج‏.‏ والرابع أن يقدم العمرة على الحج‏.‏ والخامس أن ينشئ الحج بعد الفراغ من العمرة وإحلاله منها‏.‏ والسادس أن يكون وطنه غير مكة، فهذه هي صورة التمتع والاختلاف المشهور فيه والاتفاق‏.‏

 القول في القارن‏.‏

-وأما القران فهو أن يهل بالنسكين معا أو يهل بالعمرة في أشهر الحج، ثم يردف ذلك بالحج قبل أن يهل من العمرة‏.‏ واختلف أصحاب مالك في الوقت الذي يكون له فيه، فقيل ذلك له ما لم يشرع في الطواف ولو شوطا واحدا، وقيل ما لم يطف ويركع ويكره بعد الطواف وقبل الركوع، فإن فعل لزمه، وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من طواف أو سعي، ما خلا أنهم اتفقوا على أنه إذا أهل بالحج ولم يبق عليه من أفعال العمرة إلا الحلاق فإنه ليس بقارن، والقارن الذي يلزمه هدي المتمتع هو عند الجمهور من غير حاضري المسجد الحرام، إلا ابن الماجشون من أصحاب مالك، فإن القارن من أهل مكة عنده عليه الهدي‏.‏ وأما الإفراد فهو ما تعرى من هذه الصفات، وهو أن لا يكون متمتعا ولا قارنا بل أن يهل بالحج فقط‏.‏ وقد اختلف العلماء أي أفضل هل الإفراد أو القران أو التمتع‏؟‏‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلافهم فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مفردا وروي أنه تمتع وروي عنه أنه كان قارنا فاختار مالك الإفراد، واعتمد في ذلك على ما روي عن عائشة أنها قالت ‏"‏خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج‏"‏ ورواه عن عائشة من طرق كثيرة قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ وروى الإفراد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله من طرق شتى متواترة صحاح، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر‏.‏ والذين رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا احتجوا بما رواه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال ‏"‏تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة‏"‏ وهو مذهب عبد الله بن عمر وابن عباس وابن الزبير‏.‏ واختلف عن عائشة في التمتع والإفراد‏.‏ واعتمد من رأى أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا أحاديث كثيرة، منها حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بوادي العقيق ‏"‏أتاني الليلة آت من ربي فقال‏:‏ أهل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة‏"‏ خرجه البخاري، وحديث مروان ابن الحكم قال ‏"‏شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما‏:‏ لبيك بعمرة وحجة، وقال‏:‏ ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد‏"‏ خرجه البخاري، وحديث أنس خرجه البخاري أيضا قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏لبيك عمرة وحجة‏"‏ وحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ‏"‏خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله‏:‏ من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا‏"‏ واحتجوا فقالوا‏:‏ ومعلوم أنه كان معه صلى الله عليه وسلم هدي، ويبعد أن يأمر بالقران من معه هدي ويكون معه هدي ولا يكون قارنا‏.‏ وحديث مالك أيضا عن نافع عن عمر عن حفصة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر هديي‏"‏ وقال أحمد‏:‏ لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا، والتمتع أحب إلي، واحتج في اختياره التمتع بقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة‏"‏ واحتج من طريق المعنى من رأى أن الإفراد الأفضل أن التمتع والقران رخصة ولذلك وجب فيهما الدم‏.‏ وإذ قلنا في وجوب هذا النسك وعلى من يجب وما شروط وجوبه ومتى يجب وفي أي وقت يجب ومن أي مكان يجب وقلنا بعد ذلك فيما يجتنبه المحرم بما هو محرم، ثم قلنا أيضا في أنواع هذا النسك يجب أن نقول في أول أفعال الحاج أو المعتمر وهو الإحرام‏.‏

 القول في الإحرام‏.‏

-واتفق جمهور العلماء على أن الغسل للإهلال سنة، وأنه من أفعال المحرم حتى قال ابن نوار‏:‏ إن هذا الغسل للإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة‏.‏ وقال أهل الظاهر‏:‏ هو واجب‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ يجزئ منه الوضوء وحجة أهل الظاهر مرسل مالك من حديث أسماء بيت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ مرها فلتغتسل ثم لتهل‏"‏ والأمر عندهم على الوجوب وعمدة الجمهور أن الأصل هو براءة الذمة حتى يثبت الوجوب بأمر لا مدفع فيه، وكان عبد الله بن عمر يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخوله مكة ولوقوفه عشية يوم عرفة، ومالك يرى هذه الاغتسالات الثلاث من أفعال المحرم، واتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير التلبية‏؟‏ فقال مالك والشافعي‏:‏ تجزئ النية من غير التلبية‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة إلا أنه يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية كما يجزئ عنده في افتتاح الصلاة كل لفظ يقوم مقام التكبير وهو كل ما يدل على التعظيم‏.‏ واتفق العلماء على أن لفظ تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك‏"‏ وهي من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصح سندا‏.‏ واختلفوا في هل هي واجبة بهذا اللفظ أم لا‏؟‏ فقال أهل الظاهر‏:‏ هي واجبة بهذا اللفظ، ولا خلاف عند الجمهور في استحباب هذا اللفظ، وإنما اختلفوا في الزيادة عليه أو في تبديله، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية، وهو مستحب عند الجمهور لما رواه مالك ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية وبالإهلال‏"‏ وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يرفع المحرم صوته في مساجد الجماعة بل يكفيه أن يسمع من يليه، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما‏.‏ واستحب الجمهور رفع الصوت عند التقاء الرفاق وعند الإطلال على شرف من الأرض‏.‏ وقال أبو حازم‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم‏.‏ وكان مالك لا يرى التلبية من أركان الحج ويرى على تاركها دما، وكان غيره يراها من أركانه‏.‏ وحجة من رآها واجبة أن أفعاله صلى الله عليه وسلم إذا أتت بيانا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏خذوا عني مناسككم‏"‏ وبهذا يحتج من أوجب لفظه فيها فقط‏.‏ ومن لم ير وجوب لفظه فاعتمد في ذلك على ما روي من حديث جابر قال ‏"‏أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏ فذكر التلبية التي في حديث ابن عمر‏.‏ وقال في حديثه ‏"‏والناس يزيدون على ذلك ‏"‏لبيك ذا المعارج‏"‏ ونحوه من الكلام والنبي يسمع ولا يقول شيئا وما روي عن ابن عمر أنه كان يزيد في التلبية وعن عمر بن الخطاب وعن أنس وغيره‏.‏ واستحب العلماء أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بأثر صلاة يصليها، فكان مالك يستحب ذلك بأثر نافلة لما روي من مرسله عن هشام ابن عروة، عن أبيه ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين فإذا استوت به راحلته أهل‏"‏‏.‏ واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجته من أقطار ذي الحليفة، فقال قوم‏:‏ من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه، وقال آخرون‏:‏ إنما أحرم حين أطل على البيداء، وقال قوم‏:‏ إنما أهل حين استوت به راحلته‏.‏ وسئل ابن عباس عن اختلافهم في ذلك فقال‏:‏ كل حدث لا عن أول إهلاله عليه الصلاة والسلام بل عن أول إهلال سمعه، وذلك أن الناس يأتون متسابقين فعلى هذا لا يكون في هذا اختلاف، ويكون الإهلال إثر الصلاة‏.‏ وأجمع الفقهاء على أن المكي لا يلزمه الإهلال حتى إذا خرج إلى منى ليتصل له عمل الحج، وعمدتهم ما رواه مالك عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر‏:‏ رأيتك تفعل هنا أربعا لم أر أحد يفعلها، فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية، فأجابه ابن عمر‏:‏ أما الإهلال ‏"‏فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته‏"‏ يريد حتى يتصل له عمل الحج‏.‏ وروى مالك أن عمر ابن الخطاب كان يأمر أهل مكة أن يهلوا إذا رأوا الهلال‏.‏ ولا خلاف عندهم أن المكي لا يهل إلا من جوف مكة إذا كان حاجا، وإما إذا كان معتمرا فإنهم أجمعوا على أنه يلزمه أن يخرج إلى الحل ثم يحرم منه ليجمع بين الحل والحرم كما يجمع الحاج، أعني لأنه يخرج إلى عرفة وهو حل‏.‏ وبالجملة فاتفقوا على أنها سنة المعتمر، واختلفوا إن لم يفعل فقال قوم‏:‏ يجزيه وعليه دم، وبه قال أبو حنيفة وابن القاسم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا يجزيه وهو قول الثوري وأشهب‏.‏

-‏(‏وأما متى يقطع المحرم التلبية‏)‏ فإنهم اختلفوا في ذلك، فروى مالك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقطع التلبية إذا زاغت الشمس من يوم عرفة‏.‏ وقال مالك‏:‏ وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا‏.‏ وقال ابن شهاب‏:‏ كانت الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يقطعون التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة‏.‏ قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ واختلف في ذلك عن عثمان وعائشة‏.‏ وقال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود وابن أبي ليلى وأبو عبيد والطبري والحسن بن حيى‏:‏ إن المحرم لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لما ثبت ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة‏"‏ إلا أنهم اختلفوا متى يقطعها، فقال قوم‏:‏ إذا رماها بأسرها لما روي عن ابن عباس ‏"‏أن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لبى حين رمى جمرة العقبة وقطع التلبية في آخر حصاة‏"‏ وقال قوم‏:‏ بل يقطعها في أول جمرة يلقيها روي ذلك عن ابن مسعود‏.‏ وروى في وقت قطع التلبية بأقاويل غير هذه إلا أن هذين القولين هما المشهوران‏.‏ واختلفوا في وقت قطع التلبية بالعمرة، وقال مالك‏:‏ يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم، وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا افتتح الطواف، وسلف مالك في ذلك ابن عمر وعروة، وعمدة الشافعي أن التلبية معناها إجابة إلى الطواف بالبيت فلا تنقطع حتى يشرع في العمل‏.‏ وسبب الخلاف معارضة القياس لفعل بعض الصحابة وجمهور العلماء كما قلنا متفقون على إدخال المحرم الحج على العمرة ويختلفون في إدخال العمرة على الحج‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ لا يدخل حج على عمرة ولا عمرة على حج كما لا تدخل صلاة على صلاة، فهذه هي أفعال المحرم بما هو محرم وهو أول أفعال الحج‏.‏ وأما الفعل الذي بعد هذا فهو الطواف عند دخول مكة فلنقل في الطواف‏:‏