فصل: الخليفة المستنصر الفاطمي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة الخليفة المقتدي وخلافة ولده المستظهر بالله‏.‏

صفة موته

لما قدم السلطان بركيارق بغداد، سأل من الخليفة أن يكتب له بالسلطنة كتاباً فيه العهد إليه فكتب ذلك، وهيئت الخلع وعرضت على الخليفة، وكان الكتاب يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم، ثم قدم إليه الطعام فتناول منه على العادة وهو في غاية الصحة، ثم غسل يده وجلس ينظر في العهد بعدما وقع عليه، وعنده قهرمانة تسمى شمس النهار، قالت‏:‏ فنظر إليّ وقال‏:‏ من هؤلاء الأشخاص الذين قد دخلوا علينا بغير إذن‏؟‏

قالت‏:‏ فالتفت فلم أر أحداً، ورأيته قد تغيرت حالته واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قواه، وسقط إلى الأرض‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/180‏)‏

قالت‏:‏ فظننت أنه غشي عليه، فحللت أزرار ثيابه فإذا هو لا يجيب داعياً، فأغلقت عليه الباب وخرجت فأعلمت ولي العهد بذلك، وجاء الأمراء ورؤس الدولة يعزونه بأبيه، ويهنئونه بالخلافة، فبايعوه‏.‏

 شيء من ترجمة المقتدي بأمر الله

هو أمير المؤمنين المقتدي بالله أبو عبد الله بن الذخيرة، الأمير ولي العهد أبي العباس أحمد، ابن أمير المؤمنين القائم بأمر الله، بن القادر بالله العباسي، أمه أم ولد اسمها أرجوان أرمنية، أدركت خلافة ولدها وخلافة ولده المستظهر وولد المسترشد أيضاً، وكان المقتدي أبيض حلو الشمائل، عمرت في أيامه محال كثيرة من بغداد، ونفى عن بغداد المغنيات وأرباب الملاهي والمعاصي، وكان غيوراً على حريم الناس، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، حسن السيرة، رحمه الله‏.‏

توفي يوم الجمعة رابع عشر المحرم من هذه السنة، وله من العمر ثمان وثلاثون سنة وثمان شهور وتسعة أيام، خلافته من ذلك تسع عشرة سنة وثمان شهور إلا يومين، وأخفي موته ثلاثة أيام حتى توطدت البيعة لابنه المستظهر، ثم صلي عليه ودفن في تربتهم، والله أعلم‏.‏

 خلافة المستظهر بأمر الله أبي العباس

لما توفي أبوه يوم الجمعة أحضروه وله من العمر ست عشرة سنة وشهران، فبويع بالخلافة، وأول من بايعه الوزير أبو منصور بن جهير، ثم أخذ البيعة له من الملك ركن الدولة بركيارق بن ملكشاه ثم من بقية الأمراء والرؤساء، وتمت البيعة تؤخذ له إلى ثلاثة أيام، ثم أظهر التابوت يوم الثلاثاء الثامن عشر من المحرم، وصلى عليه ولده الخليفة، وحضر الناس، ولم يحضر السلطان، وحضر أكثر أمرائه، وحضر الغزالي والشاشي وابن عقيل، وبايعوه يوم ذلك‏.‏

وقد كان المستظهر كريم الأخلاق حافظاً للقرآن فصيحاً بليغاً شاعراً مطيقاً، ومن لطيف شعره قوله‏:‏

أذاب حر الجوى في القلب ما جمدا * يوماً مددت على رسم الوداع يدا

فكيف أسلك نهج الاصطبار وقد * أرى طرائق من يهوى الهوى قددا

قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به * من بعد ما قد وفى دهرا بما وعدا

إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي * من بعد هذا فلا عاينته أبدا

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/181‏)‏

وفوض المستظهر أمور الخلافة إلى وزيره أبي منصور عميد الدولة بن جهير، فدبرها أحسن تدبير، ومهد الأمور أتم تمهيد، وساس الرعايا، وكان من خيار الوزراء‏.‏

وفي ثالث عشر شعبان عزل الخليفة أبا بكر الشاشي عن القضاء، وفوضه إلى أبي الحسن بن الدامغاني‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بين السنة والروافض فأحرقت محال كثيرة، وقتل ناس كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولم يحج أحد لاختلاف السلاطين‏.‏

وكانت الخطبة للسلطان بركيارق ركن الدولة يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم، وهو اليوم الذي توفي فيه الخليفة المقتدي بعد ما علم على توقيعه‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 اقسنقر الأتابك

الملقب قسيم الدولة السلجوقي، ويعرف بالحاجب، صاحب حلب وديار بكر والجزيرة‏.‏

وهو جد الملك نور الدين الشهيد بن زنكي بن اقسنقر، كان أولاً من أخص أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، ثم ترقت منزلته عنده حتى أعطاه حلب وأعمالها بإشارة الوزير نظام الملك، وكان من أحسن الملوك سيرة وأجودهم سريرة، وكانت الرعية معه في أمن ورخص وعدل، ثم كان موته على يد السلطان تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وذلك أنه استعان به وبصاحب حران والرها على قتال ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، ففرا عنه وتركاه، فهرب إلى دمشق، فلما تمكن ورجعا قاتلهما بباب حلب فقتلهما، وأخذ بلادهما إلا حلب، فإنها استقرت لولد اقسنقر زنكي فيما بعد، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة كما سيأتي بيانه‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه كان مملوكاً للسلطان ملكشاه، هو وبوزان صاحب الرها، فلما ملك تتش حلب استنابه بها فعصى عليه فقصده، وكان قد ملك دمشق أيضاً فقاتله فقتله في هذه السنة في جمادى الأولى منها، فلما قتل دفنه ولده عماد الدين زنكي، وهو أبو نور الدين، فقبره بحلب أدخله ولده إليها من فوق الصور، فدفنه بها‏.‏

 أمير الجيوش بدر الجمالي

صاحب جيوش مصر ومدبر الممالك الفاطمية، كان عاقلاً كريماً محباً للعلماء، ولهم عليه رسوم دارة، تمكن في أيام المستنصر تمكناً عظيماً، ودارت أزمة الأمور على آرائه، وفتح بلاداً كثيرة، وامتدت أيامه وبعد صيته وامتدحته الشعراء‏.‏

ثم كانت وفاته في ذي القعدة منها، وقام بالأمر من بعده ولده الأفضل‏.‏

 الخليفة المقتدي

وقد تقدم شيء من ترجمته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/182‏)‏

 الخليفة المستنصر الفاطمي

أبو تميم معد بن أبي الحسن علي بن الحاكم، استمرت أيامه ستين سنة، ولم يتفق هذا لخليفة قبله ولا بعده، وكان قد عهد بالأمر إلى ولده نزار، فخلعه الأفضل بن بدر الجمالي بعد موت أبيه‏.‏

وأمر الناس فبايعوا أحمد بن المستنصر أخاه؛ ولقبه بالمستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية فجمع الناس عليه فبايعوه، وتولى أمره قاضي الإسكندرية‏:‏ جلال الدولة بن عمار، فقصده الأفضل فحاصره وقاتلهم نزار وهزمهم الأفضل، وأسر القاضي ونزار، فقتل القاضي وحبس نزار بين حيطين حتى مات، واستقر المستعلي في الخلافة، وعمره إحدى وعشرين سنة‏.‏

 محمد بن أبي هاشم

أمير مكة، كانت وفاته فيها عن نيف وتسعين سنة‏.‏

 محمود بن السلطان ملكشاه

كانت أمه قد عقدت له الملك، وأنفقت بسببه الأموال، فقاتله بركيارق فكسره، ولزم بلده أصبهان، فمات بها في هذه السنة، وحمل إلى بغداد فدفن بها بالتربة النظامية‏.‏

كان من أحسن الناس وجهاً وأظرفهم شكلاً، توفي في شوال منها، وماتت أمه الخاتون تركيان شاه في رمضان، فانحل نظامه، وكانت قد جمعت عليه العساكر، وأسندت أزمة أمور المملكة إليه، وملكت عشرة آلاف مملوك تركي، وأنفقت في ذلك قريباً من ثلاثة آلاف ألف دينار، فانحل النظام ولم تحصل على طائل، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة

فيها‏:‏ قدم يوسف بن أبق التركماني من جهة تتش صاحب دمشق إلى بغداد لأجل إقامة الدعوة له ببغداد، وكان تتش قد توجه لقتال ابن أخيه بناحية الري، فلما دخل رسوله بغداد هابوه وخافوه واستدعاه الخليفة فقربه وقبل الأرض بين يدي الخليفة، وتأهب أهل بغداد له، وخافوا أن ينهبهم، فبينما هو كذلك إذ قدم عليه رسول ابن أخيه فأخبره أن تتش قتل في أول من قتل في الوقعة، وكانت وفاته في سابع عشر صفر من هذه السنة، فاستفحل أمر بركيارق واستقل بالأمور‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/183‏)‏

وكان دقاق بن تتش مع أبيه حين قتل، فسار إلى دمشق فملكها، وكان نائب أبيه عليها الأمير ساوتكين، واستوزر أبا القاسم الخوارزمي، وملك عبد الله بن تتش مدينة حلب، ودبر أمر مملكته جناح الدولة بن اتكين، ورضوان بن تتش صاحب مدينة حماه، وإليه تنسب بنو رضوان بها‏.‏

وفي يوم الجمعة التاسع عشر من ربيع الأول منها خطب لولي العهد أبي المنصور الفضل بن المستظهر، ولقب بذخيرة الدين‏.‏

وفي ربيع الآخر خرج الوزير ابن جهير فاختط سوراً على الحريم، وأذن للعوام في العمل والتفرج فأظهروا منكرات كثيرة، وسخافات عقول ضعيفة، وعملوا أشياء منكرة، فبعث إليه ابن عقيل رقعة فيها كلام غليظ، وإنكار بغيض‏.‏

وفي رمضان خرج السلطان بركيارق فعدا عليه فداوى، فلم يتمكن منه، فمسك فعوقب فأقر على آخرين فلم يقرا فقتل الثلاثة، وجاء الطواشي من جهة الخليفة مهنئاً به بالسلامة‏.‏

وفي ذي القعدة منها خرج أبو حامد الغزالي من بغداد متوجهاً إلى بيت المقدس تاركاً لتدريس النظامية، زاهداً في الدنيا، لابساً خشن الثياب بعد ناعمها، وناب عنه أخوه في التدريس، ثم حج في السنة التالية ثم رجع إلى بلده، وقد صنف كتاب ‏(‏الإحياء‏)‏ في هذه المدة، وكان يجتمع إليه الخلق الكثير كل يوم في الرباط فيسمعونه‏.‏

وفي يوم عرفة خلع على القاضي أبي الفرج عبد الرحمن بن هبة الله بن البستي، ولقب بشرف القضاة، ورد إلى ولاية القضاء بالحريم وغيره‏.‏

وفيها‏:‏ اصطلح أهل الكرخ من الرافضة والسنة مع بقية المحال، وتزاوروا وتواصلوا وتواكلوا، وكان هذا من العجائب‏.‏

وفيها‏:‏ قتل أحمد بن خاقان صاحب سمرقند، وسببه أنه شهد عليه بالزندقة فخنق وولي مكانه ابن عمه مسعود‏.‏

وفيها‏:‏ دخل الأتراك إفريقية وغدروا بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وقبضوا عليه، وملكوا بلاده وقتلوا خلقاً، بعدما جرت بينه وبينهم حروب شديدة، وكان مقدمهم رجل يقال له‏:‏ شاه ملك، وكان من أولاد بعض أمراء المشرق، فقدم مصر وخدم بها ثم هرب إلى المغرب، ومعه جماعة ففعل ما ذكر‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق فيها‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ الحسن بن أحمد بن خيرون

أبو الفضل المعروف بابن الباقلاني، سمع الكثير، وكتب عنه الخطيب، وكانت له معرفة جيدة، وهو من الثقات، وقبله الدامغاني، ثم صار أميناً له، ثم ولي إشراف خزانة الغلات‏.‏

توفي في رجب عن ثنتين وثمانين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/184‏)‏

 تتش أبو المظفر

تاج الدولة بن ألب أرسلان، صاحب دمشق وغيرها من البلاد، وقد تزوج امرأة علي ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه، ولكن قدر الله وماتت، وقد قال المتنبي‏:‏

ولله سر في علاك وإنما * كلام العدى ضرب من الهذيان

قال ابن خلكان‏:‏ كان صاحب البلاد الشرقية فاستنجده أتسز في محاربة أمير الجيوش من جهة صاحب مصر، فلما قدم دمشق لنجدته وخرج إليه أتسز، أمر بمسكه وقتله، واستحوذ هو على دمشق وأعمالها في سنة إحدى وسبعين، ثم حارب أتسز فقتله، ثم تحارب هو وأخوه بركيارق ببلاد الري، فكسره أخوه وقتل هو في المعركة، وتملك ابنه رضوان حلب، وإليه تنسب بنو رضوان بها، وكان ملكه عليها إلى سنة سبع وخمسين وخمسمائة، سمته أمه في عنقود عنب، فقام بعده ولده تاج الملك بوري أربع سنين، ثم ابنه الآخر شمس الملك إسماعيل ثلاث سنين، ثم قتلته أمه أيضاً، وهي زمرد خاتون بنت جاولي، وأجلست أخاه شهاب الدين محمود بن بوري، فمكث أربع سنين، ثم ملك أخوه محمد بن بوري طغركين سنة، ثم تملك مجير الدين أبق من سنة أربع وثلاثين إلى أن انتزع الملك منه نور الدين محمود زنكي كما سيأتي‏.‏

وكان إتابك العساكر بدمشق أيام أتق معين الدين، الذي تنسب إليه المعينية بالغور، والمدرسة المعينية بدمشق‏.‏

 رزق الله بن عبد الوهاب

ابن عبد العزيز أبو محمد التميمي أحد أئمة القراء والفقهاء على مذهب أحمد، وأئمة الحديث، وكان له مجلس للوعظ، وحلقة للفتوى بجامع المنصور، ثم بجامع القصر، وكان حسن الشكل محبباً إلى العامة له شعر حسن، وكان كثير العبادة، فصيح العبارة، حسن المناظرة، وقد روى عن آبائه حديثاً مسلسلاً عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل‏.‏

وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة، يفد في مهام الرسائل إلى السلطان‏.‏

توفي يوم الثلاثاء النصف من جمادى الأولى من هذه السنة، عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بداره بباب المراتب بإذن الخليفة، وصلى عليه ابنه أبو الفضل‏.‏

 أبو سيف القزويني

عبد السلام بن محمد بن سيف بن بندار الشيخ، شيخ المعتزلة، قرأ على عبد الجبار بن أحمد الهمداني، ورحل إلى مصر، وأقام بها أربعين سنة، وحصل كتباً كثيرة، وصنف تفسيراً في سبعمائة مجلد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/185‏)‏

قال ابن الجوزي‏:‏ جمع فيه العجب، وتكلم على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ في مجلد كامل‏.‏

وقال ابن عقيل‏:‏ كان طويل اللسان بالعلم تارة، وبالشعر أخرى، وقد سمع الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، ومات ببغداد عن ست وتسعين سنة‏.‏

وما تزوج إلا في آخر عمره‏.‏

 أبو شجاع الوزير

محمد بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم، أبو شجاع، الملقب ظهير الدين، الروذراوري الأصل الأهوازي المولد، كان من خيار الوزراء كثير الصدقة والإحسان إلى العلماء والفقهاء، وسمع الحديث من الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره، وصنف كتباً، منها كتابه الذي ذيله على تجارب الأمم‏.‏

ووزر للخليفة المقتدي وكان يملك ستمائة ألف دينار، فأنفقها في سبيل الخيرات والصدقات، ووقف الوقوف الحسنة، وبنى المشاهد، وأكثر الإنعام على الأرامل والأيتام‏.‏

قال له رجل‏:‏ إلى جانبنا أرملة لها أربعة أولاد وهم عراة وجياع‏.‏

فبعث إليهم مع رجل من خاصته نفقة وكسوة وطعاماً، ونزع عنه ثيابه في البرد الشديد، وقال‏:‏ والله لا ألبسها حتى ترجع إلي بخبرهم‏.‏

فذهب الرجل مسرعاً بما أرسله على يديه إليهم، ثم رجع إليه فأخبره أنهم فرحوا بذلك ودعوا للوزير، فسر بذلك ولبس ثيابه‏.‏

وجيء إليه مرة بقطائف سكرية فلما وضعت بين يديه تنغص عليه بمن لا يقدر عليها، فأرسلها كلها إلى المساجد، وكانت كثيرة جداً، فأطعمها الفقراء والعميان، وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء، فإذا وقع له أمر مشكل سألهم عنه فحكم بما يفتونه، وكان كثير التواضع مع الناس، خاصتهم وعامتهم، ثم عزل عن الوزارة فسار إلى الحج وجاور بالمدينة ثم مرض، فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبوية فقال‏:‏ يا رسول الله قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ وها أنا قد جئتك أستغفر الله من ذنوبي وأرجو شفاعتك يوم القيامة‏.‏

ثم مات من يومه ذلك، رحمه الله تعالى، ودفن في البقيع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/186‏)‏

 القاضي أبو بكر الشاشي

محمد بن المظفر بن بكران الحموي أبو بكر الشاشي، ولد سنة أربعمائة، وتفقه ببلده، ثم حج في سنة سبع عشرة وأربعمائة، وقدم بغداد فتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع بها الحديث، وشهد عند ابن الدامغاني فقبله، ولازم مسجده خمساً وخمسين سنة، يقرئ الناس ويفقههم، ولما مات الدامغاني أشار به أبو شجاع الوزير فولاه الخليفة المقتدي القضاء، وكان من أنزه الناس وأعفهم، لم يقبل من سلطان عطية، ولا من صاحب هدية، ولم يغير ملبسه ولا مأكله، ولم يأخذ على القضاء أجراً ولم يستنب أحداً، بل كان يباشر القضاء بنفسه، ولم يحاب مخلوقاً، وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بينة، إذا قامت عنده قرائن التهمة، حتى يقروا، ويذكر أن في كلام الشافعي ما يدل على هذا‏.‏

وقد صنف كتاباً في ذلك، ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن، واستشهد له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وشهد عنده رجل من كبار الفقهاء والمناظرين يقال له‏:‏ المشطب بن أحمد بن أسامة الفرغاني، فلم يقبله، لما رأى عليه من الحرير وخاتم الذهب، فقال له المدعي‏:‏ إن السلطان ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير والذهب‏.‏

فقال القاضي الشاشي‏:‏ والله لو شهدا عندي على باقة بقلة ما قبلتهما، ولرددت شهادتهما‏.‏

وشهد عنده مرة فقيه فاضل من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال‏:‏ لأي شيء ترد شهادتي وهي جائزة عند كل حاكم إلا أنت‏؟‏

فقال له‏:‏ لا أقبل لك شهادة، فإني رأيتك تغتسل في الحمام عرياناً غير مستور العورة، فلا أقبلك‏.‏

توفي يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالقرب من ابن شريح‏.‏

 أبو عبد الله الحميدي

محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد، الأندلسي من جزيرة يقال لها‏:‏ برقة قريبة من الأندلس، قدم بغداد فسمع بها الحديث، وكان حافظاً مكثراً أديباً ماهراً عفيفاً نزهاً، وهو صاحب ‏(‏الجمع بين الصحيحين‏)‏، وله غير ذلك من المصنفات، وقد كتب مصنفات ابن حزم والخطيب، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة، وقد جاوز التسعين، وقبره قريب من قبر بشر الحافي ببغداد‏.‏

 هبة الله بن الشيخ أبي الوفا بن عقيل

كان قد حفظ القرآن وتفقه وظهر منه نجابة، ثم مرض فأنفق عليه أبوه أموالاً جزيلة فلم يفد شيئاً، فقال له ابنه ذات يوم‏:‏ يا أبت إنك قد أكثرت الأدوية والأدعية، ولله فيّ اختيار فدعني واختيار الله فيّ‏.‏

قال أبوه‏:‏ فعلمت أنه لم يوفق لهذا الكلام إلا وقد اختير للحظوة، والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/187‏)‏

 ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة

قال ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏:‏ في هذه السنة حكم جهلة المنجمين أنه سيكون في هذه السنة طوفان قريب من طوفان نوح، وشاع الكلام بذلك بين العوام وخافوا، فاستدعى الخليفة المستظهر ابن عشبون المنجم فسأله عن هذا الكلام فقال‏:‏ إن طوفان نوح كان في زمن اجتمع في بحر الحوت الطوالع السبعة، والآن فقد اجتمع فيه ستة ولم يجتمع معها زحل، فلا بد من وقوع طوفان في بعض البلاد، والأقرب أنها بغداد‏.‏

فتقدم الخليفة إلى وزيره بإصلاح المسيلات والمواضع التي يخشى انفجار الماء منها، وجعل الناس ينتظرون، فجاء الخبر بأن الحجاج حصلوا بوادي المناقب بعد نخلة فأتاهم سيل عظيم، فما نجا منهم إلا من تعلق برؤس الجبال، وأخذ الماء الجمال والرجال والرحال، فخلع الخليفة على ذلك المنجم وأجرى له جارية‏.‏

وفيها‏:‏ ملك الأمير قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل، وقتل شرف الدولة محمد بن مسلم بن قريش، وغرقه بعد حصار تسعة أشهر‏.‏

وفيها‏:‏ ملك تميم بن المعز المغربي مدينة قابس وأخرج منها أخاه عمر، فقال خطيب سوسة في ذلك أبياتاً‏:‏

ضحك الزمان وكان يلقى عابساً * لما فتحت بحد سيفك قابسا

وأتيتها بكراً وما أمهرتها * إلا قناً وصوارماً وفوراسا

الله يعلم ما جنيت ثمارها * إلا وكان أبوك قبلاً غارسا

من كان في زرق الأسنة خاطباً * كانت له قلل البلاد عرائسا

وفي صفر منها درس الشيخ أبو عبد الله الطبري بالنظامية، ولاه إياها فخر الملك بن نظام الملك وزير بركيارق‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت خفاجة على بلاد سيف الدولة صدقة بن مزيد بن منصور بن دبيس وقصدوا مشهد الحسين بالحائر، وتظاهروا فيه بالمنكرات والفساد، فكبسهم فيه الأمير صدقة المذكور، فقتل منهم خلقاً كثيراً عند الضريح‏.‏

ومن العجائب أن أحدهم ألقى نفسه وفرسه من فوق السور فسلم وسلمت فرسه‏.‏

وحج بالناس الأمير خمارتكين الحسناني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/188‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله

أخو أبي حكيم الخيري، وخير‏:‏ إحدى بلاد فارس، سمع الحديث وتفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكانت له معرفة بالفرائض والأدب واللغة، وله مصنفات، وكان مرضى الطريقة، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، فبينما هو ذات يوم يكتب وضع القلم من يده واستند وقال‏:‏ والله لئن كان هذا موتاً إنه لطيب‏.‏

ثم مات‏.‏

 عبد المحسن بن أحمد الشنجي

التاجر، ويعرف بابن شهداء مكة، بغدادي، سمع الحديث الكثير، ورحل وأكثر عن الخطيب وهو بصور، وهو الذي حمله إلى العراق، فلهذا أهدى إليه الخطيب ‏(‏تاريخ بغداد‏)‏ بخطه، وقد روى عنه في مصنفاته، وكان يسميه عبد الله، وكان ثقة‏.‏

 عبد الملك بن إبراهيم

ابن أحمد أبو الفضل المعروف بالهمداني، تفقه على الماوردي، وكانت له يد طولى في العلوم الشريعة والحساب وغير ذلك، وكان يحفظ ‏(‏غريب الحديث‏)‏ لأبي عبيد، و‏(‏المجمل‏)‏ لابن فارس، وكان عفيفاً زاهداً، طلبه المقتدي ليوليه قاضي القضاة فأبى أشد الإباء، واعتذر له بالعجز وعلو السن، وكان ظريفاً لطيفاً، كان يقول‏:‏ كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده ثم يقول‏:‏ نويت أن أضرب ولدي تأديباً كما أمر الله‏.‏

ثم يضربني‏.‏

قال‏:‏ وإلى أن ينوي ويتمم النية كنت أهرب‏.‏

توفي في رجب منها ودفن عند قبر ابن شريح‏.‏

 محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن منصور

أبو بكر الدقاق، ويعرف بابن الخاضبة، كان معروفاً بالإفادة وجودة القراءة وحسن الخط وصحة النقل، جمع بين علم القراءات والحديث، وأكثر عن الخطيب وأصحاب المخلص‏.‏

قال‏:‏ لما غرقت بغداد غرقت داري وكتبي فلم يبق لي شيء، فاحتجت إلى النسخ، فكتبت ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ في تلك السنة سبع مرات، فنمت فرأيت ذات ليلة كأن القيامة قد قامت وقائل يقول‏:‏ أين ابن الخاضبة‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/189‏)‏

فجئت فأدخلت الجنة فلما دخلتها استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجلي على الأخرى وقلت‏:‏ استرحت من النسخ، ثم استيقظت والقلم في يدي، والنسخ بين يدي‏.‏

 أبو المظفر السمعاني

منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد، أبو المظفر السمعاني، الحافظ، من أهل مرو، تفقه أولاً على أبيه في مذهب أبي حنيفة، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن أبي إسحاق وابن الصباغ، وكانت له يد طولى في فنون كثيرة، وصنف ‏(‏التفسير‏)‏، وكتاب ‏(‏الانتصار‏)‏ في الحديث، و‏(‏البرهان والقواطع‏)‏ في أصول الفقه، و‏(‏الاصطلام‏)‏ وغير ذلك، ووعظ في مدينة نيسابور، وكان يقول‏:‏ ما حفظت شيئاً فنسيته‏.‏

وسئل عن أخبار الصفات فقال‏:‏ عليكم بدين العجائز وصبيان الكتاتيب‏.‏

وسئل عن الاستواء فقال‏:‏

جئتماني لتعلما سر سعدى * تجداني بسر سعدى شحيحا

إن سعدى لمنية المتمني * جمعت عفة ووجهاً صبيحا

توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن في مقبرة مرو، رحمه الله تعالى وإيانا آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة من الهجرة

فيها‏:‏ كان ابتداء ملك الخوارزمية، وذلك أن السلطان بركيارق ملك فيها بلاد خراسان بعد مقتل عمه أرسلان أرغون بن ألب أرسلان وسلمها إلى أخيه المعروف بالملك سنجر، وجعل إتابكه الأمير قماج، ووزيره أبو الفتح علي بن الحسين الطغرائي، واستعمل على خراسان الأمير حبشي بن البرشاق، فولى مدينة خوارزم شاباً يقال له‏:‏ محمد بن أنوشتكين، وكان أبوه من أمراء السلاجقة، ونشأ هو في أدب وفضيلة وحسن سيرة، ولما ولي مدينة خوارزم لقب خوارزم شاه، وكان أول ملوكهم، فأحسن السيرة وعامل الناس بالجميل، وكذلك ولده من بعده أتسز جرى على سيرة أبيه وأظهر العدل، فحظي عند السلطان سنجر وأحبه الناس، وارتفعت منزلته‏.‏

وفيها‏:‏ خطب الملك رضوان بن تاج الملك تتش للخليفة الفاطمي المستعلي‏.‏

وفي شوال قتل رجل باطني عند باب النوبى كان قد شهد عليه عدلان أحدهما ابن عقيل‏:‏ أنه دعاهما إلى مذهبه فجعل يقول‏:‏ أتقتلونني وأنا أقول لا إله إلا الله‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/190‏)‏

فقال ابن عقيل‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ الآية وما بعدها ‏[‏غافر‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وفي رمضان منها قتل برسق أحد أكابر الأمراء، وكان أول من تولى شحنة بغداد‏.‏

وحج بالناس فيها خمارتكين الحسناني‏.‏

وفي يوم عاشوراء كبست دار بهاء الدولة أبو نصر بن جلال الدولة أبي طاهر بن بويه لأمور ثبتت عليه عند القاضي فأريق دمه ونقضت داره، وعمل مكانها مسجدان للحنفية والشافعية، وقد كان السلطان ملكشاه قد أقطعه المدائن ودير عاقول وغيرهما‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن الحسن

ابن علي بن زكريا بن دينار، أبو يعلى العبدي البصري، ويعرف بابن الصواف، ولد سنة أربعمائة، وسمع الحديث، وكان زاهداً متصوفاً، وفقيهاً مدرساً، ذا سمت ووقار، وسكينة ودين، وكان علامة في عشرة علوم، توفي في رمضان منها عن تسعين سنة، رحمه الله‏.‏

 المعمر بن محمد

ابن المعمر بن أحمد بن محمد، أبو الغنائم الحسيني، سمع الحديث، وكان حسن الصورة كريم الأخلاق كثير التعبد، لا يعرف أنه آذى مسلماً ولا شتم صاحباً‏.‏

توفي عن نيف وستين سنة، وكان نقيباً ثنتين وثلاثين سنة، وكان من سادات قريش، وتولى بعده ولده أبو الفتوح حيدرة، ولقب بالرضى ذي الفخرين، ورثاه الشعراء بأبيات ذكرها ابن الجوزي‏.‏

 يحيى بن أحمد بن محمد البستي

سمع الحديث ورحل فيه، وكان ثقة صالحاً صدوقاً أديباً، عمّر مائة سنة وثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر، وهو مع ذلك صحيح الحواس، يقرأ عليه القرآن والحديث، رحمه الله وإيانا آمين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/191‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة

في جمادى الأولى منها ملك الإفرنج مدينة إنطاكية بعد حصار شديد، بمواطأة بعض المستحفظين على بعض الأبراج، وهرب صاحبها باغيسيان في نفر يسير، وترك بها أهله وماله، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندماً شديداً على ما فعل، بحيث إنه غشي عليه وسقط عن فرسه، فذهب أصحابه وتركوه، فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج، ولما بلغ الخبر إلى الأمير كربوقا صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة، واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص، وغيرهما، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض إنطاكية فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأخذوا منهم أموالاً جزيلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان فأخذوها بعد حصار، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

ولما بلغ هذا الأمر الفظيع إلى الملك بركيارق شق عليه ذلك وكتب إلى الأمراء ببغداد أن يتجهزوا هم والوزير ابن جهير، لقتال الفرنج، فبرز بعض الجيش إلى ظاهر البلد بالجانب الغربي ثم انفسخت هذه العزيمة لأنهم بلغهم أن الفرنج في ألف ألف مقاتل، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وحج بالناس فيها خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 طراد بن محمد بن علي

ابن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عباس، أبو الفوارس بن أبي الحسن بن أبي القاسم بن أبي تمام، من ولد زيد ابن بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي أم ولده عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن عبد الله بن عباس، سمع الحديث الكثير، والكتب الكبار، وتفرد بالرواية عن جماعة، ورحل إليه من الآفاق وأملى الحديث في بلدان شتى، وكان يحضر مجلسه العلماء والسادات وحضر أبو عبد الله الدامغاني مجلسه، وباشر نقابة الطالبيين مدة طويلة، وتوفي عن نيف وتسعين سنة، ودفن في مقابر الشهداء، رحمه الله‏.‏

 المظفر أبو الفتح ابن رئيس الرؤساء أبو القاسم

أبن المسلمة، كانت داره مجمعاً لأهل العلم والدين والأدب، وبها توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق في تربته‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ أخذت الفرنج بيت المقدس‏.‏

لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة، أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/192‏)‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلاً من فضة، زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة زنته أربعون رطلاً بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلاً من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، منهم القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، وقد نظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

فقال في ذلك أبو المظفر الأبيوردي شعراً‏:‏

مزجنا دمانا بالدموع السواجم * فلم يبق منا عرضة للمراجم

وشر سلاح المرء دمع يريقه * إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فأيهاً بني الإسلام إن وراءكم * وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

وكيف تنام العين ملء جفونها * على هفوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم * ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم * تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

ومنها قوله‏:‏

وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة * تظل لها الولدان شيب القوادم

وتلك حروب من يغب عن غمارها * ليسلم يقرع بعدها سن نادم

سللن بأيدي المشركين قواضباً * ستغمد منهم في الكلى والجماجم

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/193‏)‏

يكاد لهن المستجير بطيبة * ينادي بأعلا الصوت يا آل هاشم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا * رماحهم والدين واهي الدعائم

ويجتنبون النار خوفاً من الردى * ولا يحسبون العار ضربة لازم

أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى * ويغضي على ذل كماة الأعاجم

فليتهموا إذ لم يذودوا حمية * عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم

وإن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى * فهلا أتوه رغبة في المغانم

وفيها‏:‏ كان ابتداء أمر السلطان محمد بن ملكشاه، وهو أخو السلطان سنجر لأبيه وأمه، واستحفل إلى أن خطب له ببغداد في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ سار إلى الري فوجد زبيدة خاتون أم أخيه بركيارق فأمر بخنقها، وكان عمرها إذ ذاك ثنتين وأربعين سنة، في ذي الحجة منها وكانت له مع بركيارق خمس وقعات هائلة‏.‏

وفيها‏:‏ غلت الأسعار جداً ببغداد، حتى مات كثير من الناس جوعاً، وأصابهم وباء شديد حتى عجزوا عن دفن الموتى من كثرتهم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 السلطان إبراهيم بن السلطان محمود

ابن مسعود بن السلطان محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة وأطراف الهند، وعدا ذلك، كانت له حرمه وأبهة عظيمة، وهيبة وافرة جداً‏.‏

حكى الكيا الهراسي‏:‏ حين بعثه السلطان بركيارق في رسالته إليه عما شاهده عنده من أمور السلطنة في ملبسه ومجلسه، وما رأى عنده من الأموال والسعادة الدنيوية، قال‏:‏ رأيت شيئاً عجيباً، وقد وقد وعظه بحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا‏)‏‏)‏ فبكى‏.‏

قال‏:‏ وكان لا يبني لنفسه منزلاً إلا بنى قبله مسجداً أو مدرسة أو رباطاً‏.‏

توفي في رجب منها وقد جاوز التسعين، وكانت مدة ملكه منها ثنتين وأربعين سنة‏.‏

 عبد الباقي بن يوسف

ابن علي بن صالح، أبو تراب البراعي، ولد سنة إحدى وأربعمائة وتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع الحديث عليه وعلى غيره، ثم أقام بنيسابور‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/194‏)‏

وكان يحفظ شيئاً كثيراً من الحكايات والملح، وكان صبوراً متقللاً من الدنيا، على طريقة السلف، جاءه منشور بقضاء همدان فقال‏:‏ أنا منتظر منشور من الله عز وجل، على يدي ملك الموت بالقدوم عليه، والله لجلوس ساعة في هذه المسلة على راحة القلب أحب إليّ من ملك العراقين، وتعليم مسألة لطالب أحب إليّ مما على الأرض من شيء، والله لا أفلح قلب يعلق بالدنيا وأهلها، وإنما العلم دليل، فمن لم يدله علمه على الزهد في الدنيا وأهلها لم يحصل على طائل من العلم، ولو علم ما علم، فإنما ذلك ظاهر من العلم، والعلم النافع وراء ذلك، والله لو قطعت يدي ورجلي وقلعت عيني أحب إليّ من ولاية فيها انقطاع عن الله والدار الآخرة، وما هو سبب فوز المتقين وسعادة المؤمنين‏.‏

توفي رحمه الله في ذي القعدة من هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة، رحمه الله آمين‏.‏

 أبو القاسم ابن إمام الحرمين

قتله بعض الباطنية بنيسابور رحمه الله ورحم أباه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة

في صفر منها دخل السلطان بركيارق إلى بغداد، ونزل بدار الملك، وأعيدت له الخطبة، وقطعت خطبة أخيه محمد، وبعث إليه الخليفة هدية هائلة، وفرح به العوام والنساء، ولكنه في ضيق من أمر أخيه محمد، لإقبال الدولة عليه واجتماعهم إليه، وقلة ما معه من أموال، ومطالبة الجند له بأرزاقهم، فعزم على مصادرة الوزير ابن جهير، فالتجأ إلى الخليفة فمنعه من ذلك‏.‏

ثم اتفق الحال على المصالحة عنه بمائة ألف وستين ألف دينار، ثم سار فالتقى هو وأخوه محمد بمكان قريب من همدان، فهزمه أخوه محمد ونجا هو بنفسه في خمسين فارساً، وقتل في هذه الوقعة سعد الدولة جوهر آيين الخادم، وكان قديم الهجرة في الدولة، وقد ولى شحنة بغداد‏.‏

وكان حليماً حسن السيرة، لم يتعمد ظلم أحد، ولم ير خادم ما رأى، من الحشمة والحرمة وكثرة الخدم، وقد كان يكثر الصلاة بالليل، ولا يجلس إلا على وضوء، ولم يمرض مدة حياته ولم يصدع قط‏.‏

ولما جرى ما جرى في هذه الوقعة ضعف أمر السلطان بركيارق، ثم تراجع إليه جيشه وانضاف إليه الأمير داود في عشرين ألفاً، فالتقى هو وأخوه مع أخيه سنجر فهزمهم سنجر أيضاً وهرب في شرذمة قليلة، وأسر الأمير داود فقتله الأمير برغش أحد أمراء سنجر، فضعف بركيارق وتفرقت عنه رجاله، وقطعت خطبته من بغداد في رابع عشر رجب وأعيدت خطبة السلطان محمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/195‏)‏

وفي رمضان منها قبض على الوزير عميد الدولة بن جهير، وعلى أخويه زعيم الرؤساء أبي القاسم، وأبي البركات الملقب بالكافي، وأخذت منهم أموال كثيرة وحبس بدار الخلافة حتى مات في شوال منها‏.‏

وفي ليلة السابع والعشرين منه قتل الأمير بلكابك سرمز رئيس شحنة أصبهان، ضربه باطني بسكين في خاصرته وقد كان يتحرز منهم كثيراً، وكان يدرع تحت ثيابه سوى هذه الليلة، ومات من أولاده في هذه الليلة جماعة خرج من داره خمس جنائز من صبيحتها‏.‏

وفيها‏:‏ أقبل ملك الفرنج في ثلاثمائة ألف مقاتل فالتقى معه ستكين بن انشمند طايلو، إتابك دمشق الذي يقال له‏:‏ أمين الدولة، واقف الأمينية بدمشق وببصرى، لا التي ببعلبك، فهزم الأفرنج وقتل منهم خلقاً كثيراً، بحيث لم ينج منهم سوى ثلاثة آلاف، وأكثرهم جرحى - يعني الثلاثة آلاف - وذلك في ذي القعدة منها، ولحقهم إلى ملطية فملكها وأسر ملكها ولله الحمد‏.‏

وحج بالناس الأمير التونتاش التركي، وكان شافعي المذهب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الرزاق الغزنوي الصوفي

شيخ رباط عتّاب‏:‏ حج مرات على التجريد، مات وله نحو مائة سنة، ولم يترك كفناً، وقد قالت له امرأته لما احتضر‏:‏ سنفتضح اليوم‏.‏

قال‏:‏ لم ‏؟‏

قالت له‏:‏ لأنه لا يوجد لك كفن‏.‏

فقال لها‏:‏ لو تركت كفناً لافتضحت‏.‏

وعكسه أبو الحسن البسطامي شيخ رباط ابن المحلبان، كان لا يلبس إلا الصوف شتاء وصيفاً، ويظهر الزهد، وحين توفي وجد له أربعة آلاف دينار مدفونة، فتعجب الناس من حاليهما، فرحم الله الأول، وسامح الثاني‏.‏

 الوزير عميد الدولة بن جهير

محمد بن أبي نصر بن محمد بن جهير الوزير، أبو منصور، كان أحد رؤساء الوزراء، خدم ثلاثة من الخلفاء، وزر لاثنين منهم، وكان حليماً قليل العجلة، غير أنه كان يتكلم فيه بسبب الكبر، وقد ولي الوزارة مرات، يعزل ثم يعاد، ثم كان آخرها هذه المرة حبس بدار الخلافة فلم يخرج من السجن إلا ميتاً، في شوال منها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/196‏)‏

 ابن جَزْلة الطبيب

يحيى بن عيسى بن جزلة صاحب المنهاج في الطب، كان نصرانياً ثم كان يتردد إلى الشيخ أبي علي بن الوليد المغربي، يشتغل عليه في المنطق، وكان أبو علي يدعوه إلى الإسلام ويوضح له الدلالات حتى أسلم وحسن إسلامه، واستخلفه الدامغاني في كتب السجلات، ثم كان يطبب الناس بعد ذلك بلا أجر، وربما ركب لهم الأدوية من ماله تبرعاً، وقد أوصى بكتبه أن تكون وقفا بمشهد أبي حنيفة، رحمه الله وإيانا آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية فقتل السلطان منهم خلقاً كثيراً، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودي فيهم‏:‏ إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وكانوا قد استحوذوا على قلاعٍ كثيرة، وأول قلعة ملكوها في سنة ثلاث وثمانين، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها‏.‏

ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبياً جاهلاً، لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز، حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال، أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله‏.‏

ثم يقول له‏:‏ فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب‏.‏

ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات والحيل التي لا تروج إلا الجهال، حتى التف عليه بشرٌ كثير، وجمٌ غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك‏.‏

وبعث إليه بفتاوى العلماء فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب‏:‏ إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولاه، فاشرأبت وجوه الحاضرين‏.‏

ثم قال لشباب منهم‏:‏ اقتل نفسك فأخرج سكينا فضرب بها غلصمته فسقط ميتاً‏.‏

وقال لآخر منهم‏:‏ ألق نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع‏.‏

ثم قال لرسول السلطان‏:‏ هذا الجواب‏.‏

فمنها امتنع السلطان من مراسلته، هكذا ذكره ابن الجوزي‏.‏

وسيأتي ما جرى للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فاتح بيت المقدس، وما جرى له مع سنان صاحب الإيوان مثل هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي شهر رمضان‏:‏ أمر الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر، وأن لا يبيض، وأن يصلى فيه التراويح، وأن يجهر بالبسملة، وأن يمنع النساء من الخروج ليلاً للفرجة‏.‏

وفي أول هذه السنة‏:‏ دخل السلطان بركيارق إلى بغداد، فخطب له بها، ثم لحقه أخواه محمد وسنجر فدخلاها وهو مريض فعبرا في الجانب الغربي فقطعت خطبته وخطب لهما بها‏.‏

وهرب بركيارق إلى واسط، ونهب جيشه ما اجتازوا به من البلاد والأراضي، فنهاه بعض العلماء عن ذلك، ووعظه فلم يفد شيئاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/197‏)‏

وفي هذه السنة‏:‏ ملكت الفرنج قلاعاً كثيرةً منها‏:‏ قيسارية، وسروج، وسار ملك الفرنج كندر - وهو الذي أخذ بيت المقدس - إلى عكا فحاصرها، فجاءه سهم في عنقه فمات من فوره لعنه الله‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد

ابن عبد الواحد بن الصباح، أبو منصور، سمع الحديث وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، ثم على ابن عمه أبي نصر بن الصباح، وكان فقيهاً فاضلاً كثير الصلاة، يصوم الدهر، وقد ولي القضاء بربع الكرخ والحسبة بالجانب الغربي‏.‏

 عبد الله بن الحسن

ابن أبي منصور أبو محمد الطبسي، رحل إلى الآفاق وجمع وصنف، وكان أحد الحفاظ المكثرين ثقةً صدوقاً عالماً بالحديث، ورعاً حسن الخلق‏.‏

 عبد الرحمن بن أحمد

ابن محمد أبو محمد الرزاز السرخسي، نزل مرو وسمع الحديث وأملى ورحل إليه العلماء، وكان حافظاً لمذهب الشافعي، متديناً ورعاً، رحمه الله‏.‏

 عزيز بن عبد الملك

منصور أبو المعالي الجيلي القاضي الملقب‏:‏ سيدله، كان شافعياً في الفروع، أشعرياً في الأصول، وكان حاكماً بباب الأزج، وكان بينه وبين أهل باب الأزج من الحنابلة شنآن كبير‏.‏

سمع رجلاً ينادي على حمار له ضائع فقال‏:‏ يدخل الأزج ويأخذ بيد من شاء‏.‏

وقال يوماً للنقيب طراد الزينبي‏:‏ لو حلف إنسان أنه لا يرى إنسانا فرأى أهل باب الأزج لم يحنث‏.‏

فقال له الشريف‏:‏ من عاشر قوماً أربعين يوماً فهو منهم‏.‏ ولهذا لما مات فرحوا بموته كثيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/198‏)‏

 محمد بن أحمد

ابن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق، أبو الفضائل الربعي الموصلي، تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وسمع من القاضي أبي الطيب الطبري، وكان ثقة صالحاً، كتب الكثير‏.‏

 محمد بن الحسن

أبو عبد الله المرادي، نزل أوان وكان مقرئاً فقيهاً صالحاً، له كرامات ومكاشفات، أخذ عن القاضي أبي يعلي بن الفراء الحديث وغيره‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ بلغني أن ابنا له صغيراً طلب منه غزالاً وألح عليه، فقال له‏:‏ يا بني غداً يأتيك غزال، فلما كان الغد أتت غزال فصارت تنطح الباب بقرنيها حتى فتحته‏.‏

فقال له أبوه‏:‏ يا بني أتتك الغزال‏.‏

 محمد بن علي بن عبيد الله

ابن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان، أبو نصر الموصل القاضي، قدم بغداد سنة ثلاث وتسعين، وحدث عن عمه بالأربعين الودعانية، وقد سرقها عمه أبو الفتح بن ودعان من زيد بن رفاعة الهاشمي، فركب لها أسانيد إلى من بعد زيد بن رفاعة، وهي موضوعة كلها، وإن كان في بعضها معاني صحيحة، والله أعلم‏.‏

 محمد بن منصور

أبو سعد المستوفي شرف الملك الخوارزمي، جليل القدر، وكان متعصباً لأصحاب أبي حنيفة، ووقف لهم مدرسة بمرو، ووقف فيها كتباً كثيرة، وبنى مدرسة ببغداد عند باب الطاق، وبنى القبة على قبر أبي حنيفة، وبنى أربطة في المفاوز، وعمل خيراً كثيراً، وكان من آكل الناس مأكلاً ومشرباً، وأحسنهم ملبساً، وأكثرهم مالاً، ثم نزل العمالة بعد هذا كله، وأقبل على العبادة والاشتغال بنفسه إلى أن مات‏.‏

 محمد بن منصور القسري

المعروف‏:‏ بعميد خراسان، قدم بغداد أيام طغرلبك، وحدث عن أبي حفص عمر بن أحمد بن مسرور، وكان كثير الرغبة في الخير، وقف بمرو مدرسة على أبي بكر بن أبي المظفر السمعاني وورثته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/199‏)‏

قال ابن الجوزي‏:‏ فهم يتولونها إلى الآن، وبنى بنيسابور مدرسة، وفيها تربته‏.‏

وكانت وفاته في شوال من هذه السنة‏.‏

 نصر بن أحمد

ابن عبد الله بن البطران الخطابي البزار القارئ‏.‏

ولد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وسمع الكثير، وتفرد عن ابن زرقويه وغيره، وطال عمره، ورحل إليه من الآفاق، وكان صحيح السماع‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة

في ثالث المحرم منها، قبض على أبي الحسن علي بن محمد المعروف‏:‏ بالكيا الهراسي، وعزل عن تدريس النظامية، وذلك أنه رماه بعضهم عند السلطان بأنه باطني، فشهد له جماعة من العلماء - منهم ابن عقيل - ببراءته من ذلك، وجاءت الرسالة من دار الخلافة يوم الثلاثاء بخلاصة‏.‏

وفيها‏:‏ في يوم الثلاثاء الحادي عشر من المحرم جلس الخليفة المستظهر بدار الخلافة وعلى كتفيه البردة والقضيب بيده، وجاء الملكان الأخوان محمد وسنجر أبناء ملكشاه، فقبلا الأرض وخلع عليهما الخلع السلطانية، على محمد سيفاً وطوقاً وسوار لؤلؤ وأفراساً من مراكبه، وعلى سنجر دون ذلك، وولى السلطان محمد الملك، واستنابه في جميع ما يتعلق بأمر الخلافة، دون ما أغلق عليه الخليفة بابه، ثم خرج السلطان محمد في تاسع عشر الشهر فأرجف الناس، وخرج بركيارق فأقبل السلطان محمد فالتقوا وجرت حروب كثيرة، وانهزم محمد وجرى عليه مكروه شديد، كما سيأتي بيانه‏.‏

وفي رجب منها قبل القاضي أبو الحسن بن الدامغاني شهادة أبي الحسين وأبي حازم ابني القاضي أبي يعلي ابن الفراء‏.‏

وفيها‏:‏ قدم عيسى بن عبد الله القونوي فوعظ الناس وكان شافعياً أشعرياً، فوقعت فتنة بين الحنابلة والأشعرية ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق عظيم ببغداد‏.‏

وحج بالناس حميد العمري صاحب سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس، صاحب الحلة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أبو القاسم صاحب مصر

الخليفة الملقب بالمستعلي، في ذي الحجة منها، وقام بالأمر بعده ابنه علي وله تسع سنين، ولقب بالآمر بأحكام الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/200‏)‏

 محمد بن هبة الله

أبو نصر القاضي البندنيجي الضرير الفقيه الشافعي، أخذ عن الشيخ أبي إسحاق ثم جاور بمكة أربعين سنة، يفتي ويدرس ويروي الحديث ويحج، من شعره قوله‏:‏

عدمتك نفسي ما تملي بطالتي * وقد مر أصحابي وأهل مودتي

أعاهد ربي ثم أنقض عهده * وأترك عزمي حين تعرض شهوتي

وزادي قليل ما أراه مبلغي * أللزاد أبكي أم لبعد مسافتي

 ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ حاصر السلطان بركيارق أخاه محمداً بأصبهان، فضاقت على أهلها الأرزاق، واشتد الغلاء عندهم جداً، وأخذ السلطان محمد أهلها بالمصادرة والحصار حولهم من خارج البلد، فاجتمع عليهم الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم خرج السلطان محمد من أصبهان هارباً فأرسل أخوه في أثره مملوكه إياز، فلم يتمكن من القبض عليه، ونجا بنفسه سالماً‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي صفر منها زيد في ألقاب قاضي القضاة أبي الحسن بن الدمغاني تاج الإسلام‏.‏

وفي ربيع الأول قطعت الخطبة للسلاطين ببغداد، واقتصر على ذكر الخليفة فيها، والدعاء له، ثم التقى الأخوان بركيارق ومحمد، فانهزم محمد أيضاً ثم اصطلحا‏.‏

وفيها‏:‏ ملك دقاق بن تتش صاحب دمشق مدينة الرحبة‏.‏

وفيها‏:‏ قتل أبو المظفر الخجندي الواعظ بالري، وكان فقيهاً شافعياً مدرساً، قتله رافضي علوي في الفتنة، وكان عالماً فاضلاً، كان نظام الملك يزوره ويعظمه‏.‏

وحج بالناس خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي

ابن عبد الله بن سوار، أبو طاهر المقري، صاحب المصنفات في علوم القرآن، كان ثقة ثبتاً مأموناً عالماً بهذا الشأن، قد جاوز الثمانين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/201‏)‏

 أبو المعالي

أحد الصلحاء الزهاد، ذوي الكرامات والمكاشفات، وكان كثير العبادة متقللاً من الدنيا، لا يلبس صيفاً ولا شتاء إلا قميصاً واحداً، فإذا اشتد البرد وضع على كتفه مئزراً، وذكر أنه أصابته فاقة شديدة في رمضان، فعزم على الذهاب إلى بعض الأصحاب ليستقرض منه شيئاً، قال‏:‏ فبينما أنا أريده إذا بطائر قد سقط على كتفي، وقال‏:‏ يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني، لا تمض إليه نحن نأتيك به‏.‏

قال‏:‏ فبكر إلى الرجل‏.‏

رواه ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏ من طرق عدة، كانت وفاته في هذه السنة، ودفن قريباً من قبر أحمد‏.‏

 السيدة بنت القائم بأمر الله

أمير المؤمنين التي تزوجها طغرلبك، دفنت بالرصافة، وكانت كثيرة الصدقة، وجلس لعزائها في بيت النوبة الوزير، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ قصد الفرنج لعنهم الله الشام فقاتلهم المسلمون فقتلوا من الفرج اثني عشر ألفاً، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وقد أسر في هذه الوقعة بردويل صاحب الرها‏.‏

وفيها‏:‏ سقطت منارة واسط وقد كانت من أحسن المنائر، كان أهل البلد يفتخرون بها وبقبة الحجاج، فلما سقطت سمع لأهل البلد بكاء وعويل شديد، ومع هذا لم يهلك بسببها أحد، وكان بناؤها في سنة أربع وثلاثمائة في زمن المقتدر‏.‏

وفيها‏:‏ تأكد الصلح بين الأخوين السلطانين بركيارق ومحمد، وبعث إليه بالخلع وإلى الأمير إياز‏.‏

وفيها‏:‏ أخذت مدينة عكا وغيرها من السواحل‏.‏

وفيها‏:‏ استولى الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور صاحب الحلة على مدينة واسط‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الملك دقاق بن تتش صاحب دمشق، فأقام مملوكه طغتكين ولداً له صغيراً مكانه، وأخذ البيعة له، وصار هو أتابكه بدير المملكة مدة بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ عزل السلطان سنجر وزيره أبا الفتح الطغرائي ونفاه إلى غزنة‏.‏

وفيها‏:‏ ولي أبو نصر نظام الحضريين ديوان الإنشاء‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الطبيب الماهر الحاذق أبو نعيم، وكانت له إصابات عجيبة‏.‏

وحج بالناس فيها الأمير خمارتكين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أزردشير بن منصور

أبو الحسن العبادي الواعظ، تقدم أنه قدم بغداد فوعظ بها فأحبته العامة في سنة ست وثمانين، وقد كانت له أحوال جيدة فيما يظهر، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/202‏)‏

 إسماعيل بن محمد

ابن أحمد بن عثمان، أبو الفرج القومساني، من أهل همدان، سمع من أبيه وجده، وكان حافظاً حسن المعرفة بالرجال وأنواع الفنون، مأموناً‏.‏

 العلا بن أحمد بن وهب

ابن الموصلايا، سعد الدولة، كاتب الإنشاء ببغداد، وكان نصرانياً فأسلم في سنة أربع وثمانين فمكث في الرياسة مدة طويلة، نحواً من خمس وستين سنة، وكان فصيح العبارة، كثير الصدقة، وتوفي عن عمر طويل‏.‏

 محمد بن أحمد بن عمر

أبو عمر النهاوندي، قاضي البصرة مدة طويلة، وكان فقيهاً، سمع من أبي الحسن الماوردي وغيره، مولده في سنة سبع، وقيل‏:‏ تسع، وأربعمائة، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

فيها‏:‏ توفي السلطان بركيارق وعهد إلى ولده الصغير ملكشاه، وعمره أربع سنين وشهور، وخطب له ببغداد، ونثر عند ذكره الدنانير والدراهم، وجعل أتابكه الأمير إياز ولقب جلال الدولة، ثم جاء السلطان محمد إلى بغداد فخرج إليه أهل الدولة ليتلقوه وصالحوه، وكان الذي أخذ البيعة بالصلح الكيا الهراسي، وخطب له بالجانب الغربي، ولابن أخيه بالجانب الشرقي، ثم قتل الأمير إياز وحملت إليه الخلع والدولة والدست، وحضر الوزير سعد الدولة عند الكيا الهراسي، في درس النظامية، ليرغب الناس في العلم‏.‏

وفي ثامن رجب منها أزيل الغيار عن أهل الذمة الذين كانوا ألزموه في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولا يعرف ماسبب ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة ما بين المصريين والفرنج، فقتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً، ثم أديل عليهم الفرنج فقتلوا منهم خلقاً‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 السلطان بركيارق بن ملكشاه

ركن الدولة السلجوقي، جرت له خطوب طويلة وحروب هائلة، خطب له ببغداد ست مرات، ثم تنقطع الخطبة له ثم تعاد، مات وله من العمر أربع وعشرون سنة وشهور، ثم قام من بعده ولده ملكشاه، فلم يتم له الأمر بسبب عمه محمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/203‏)‏

 عيسى بن عبد الله

القاسم أبو الوليد الغزنوي الأشعري، كان متعصباً للأشعري، خرج من بغداد قاصداً لبلده فتوفي بإسفرايين‏.‏

 محمد بن أحمد بن إبراهيم

ابن سلفة الأصبهاني، أبو أحمد، كان شيخاً عفيفاً ثقة، سمع الكثير، وهو والد الحافظ أبي طاهر السلفي الحافظ‏.‏

 أبو علي الخيالي‏:‏ الحسين بن محمد

ابن أحمد الغساني الأندلسي، مصنف ‏(‏تقييد المهمل على الألفاظ‏)‏، وهو كتاب مفيد كثير النفع وكان حسن الخط عالماً باللغة والشعر والأدب، وكان يسمع في جامع قرطبة، توفي ليلة الجمعة لثنتي عشرة خلت من شعبان، عن إحدى وسبعين سنة‏.‏

محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر

أبو الحسن الواسطي، سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الأدب وقال الشعر‏.‏

من ذلك قوله‏:‏

من قال لي جاه ولي حشمة * ولي قبول عند مولانا

ولم يعد ذاك بنفع على * صديقه لا كان ما كانا

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة

في المحرم منها ادعى رجل النبوة بنواحي نهاوند، وسمى أربعة من أصحابه بأسماء الخلفاء الأربعة فاتبعه على ضلالته خلق من الجهلة الرعاع، وباعوا أملاكهم ودفعوا أثمانها إليه، وكان كريماً يعطي من قصده ما عنده، ثم إنه قتل بتلك الناحية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/204‏)‏

ورام رجل آخر من ولد ألب أرسلان بتلك الناحية الملك فلم يتم أمره، بل قبض عليه في أقل من شهرين، وكانوا يقولون‏:‏ ادعى رجل النبوة وآخر الملك، فما كان بأسرع من زوال دولتهما‏.‏

وفي رجب منها زادت دجلة زيادة عظيمة، فأتلفت شيئاً كثيراً من الغلات، وغرقت دور كثيرة ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ كسر طغتكين أتابك عساكر دمشق الفرنج، وعاد مؤيداً منصوراً إلى دمشق، وزينت البلد زينة عجيبة مليحة، سروراً بكسره الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ في رمضان منها حاصر الملك رضوان بن تتش صاحب حلب مدينة نصيبين‏.‏

وفيها‏:‏ ورد إلى بغداد ملك من الملوك وصحبته رجل يقال له‏:‏ الفقيه، فوعظ الناس في جامع القصر‏.‏

وحج بالناس رجل من أقرباء الأمير سيف الدولة صدقة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أبو الفتح الحاكم

سمع الحديث من البيهقي وغيره، وعلق عن القاضي حسين طريقه وشكره في ذلك، وكان قد تفقه أولاً على الشيخ أبي علي السنجي، ثم تفقه وعلق عن إمام الحرمين في الأصول بحضرته، واستجاده وولي بلده مدة طويلة، وناظر، ثم ترك ذلك كله وأقبل على العبادة وتلاوة القرآن‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وبنى للصوفية رباطاً من ماله، ولزم التعبد إلى أن مات في مستهل المحرم من هذه السنة‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن محمد بن علي بن عبد الرزاق، أبو منصور الحناط، أحد القراء والصلحاء، ختم ألوفاً من الناس، وسمع الحديث الكثير، وحين توفي اجتمع العالم في جنازته اجتماعاً لم يجتمع لغيره مثله، ولم يعهد له نظير في تلك الأزمان، وكان عمره يوم توفي سبعاً وتسعين سنة، رحمه الله‏.‏

وقد رثاه الشعراء، ورآه بعضهم في المنام فقال له‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بتعليمي الصبيان الفاتحة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/205‏)‏

 محمد بن عبيد الله بن الحسن

ابن الحسين، أبو الفرج البصري قاضيها، سمع أبا الطيب الطبري والماوردي وغيرهما، ورحل في طلب الحديث، وكان عابداً خاشعاً عند الذكر‏.‏

 مهارش بن مجلي

أمير العرب بحديثة عانة، وهو الذي أودع عنده القائم بأمر الله، حين كانت فتنة البساسيري، فأكرم الخليفة حين ورد عليه، ثم جازاه الخليفة الجزاء الأوفى، وكان الأمير مهارش هذا كثير الصدقة والصلاة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة، رحمه الله تعالى‏.‏