فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{كهيعص (1)}.
حروف هجاء مرسومة بمسمياتها ومقروءة بأسمائها فكأنها كتبت لمن يتهجاها.
وقد تقدم القول في مجموع نظائرها.
وفي المختار من الأقوال منها في سورة البقرة وكذلك موقعها من الكلام.
والأصل في النطق بهذه الحروف أن يكون كل حرف منها موقوفًا عليه، لأنّ الأصل فيها أنها تعداد حروف مستقلة أو مختزلة من كلمات.
وقرأ الجمهور جميع أسماء هذه الحروف الخمسة بإخلاص الحركات والسكون بإسكان أواخر أسمائها.
وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب اسمَ الحرف الثاني وهو (ها) بالإمالة.
وفي رواية عن نافع وابن كثير (ها) بحركة بين الكسر والفتح.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي يا بالإمالة.
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر بإظهار دَال (صاد).
وقرأ الباقون بإدغامه في ذال ذكر {رحمة ربك} [مريم: 2] وإنما لم يمد (ها) و يا مع أنّ القارىء إنما ينطق بأسماء هذه الحروف التي في أوائل السور لا بمسمياتها المكتوبة أشكالُها، واسمَا هذين الحرفين مختومان بهمزة مخففة للوجه الذي ذكرناه في طالع سورة يونس وهو التخفيف بإزالة الهمزة لأجل السكت.
واعلم أنك إن جريت على غير المختار في معاني فواتح السور، فأما الأقوال التي جعلت الفواتح كلها متحدة في المراد فالأمر ظاهر، وأما الأقوال التي خصت بعضها بمعان، فقيل في معنى {كهيعص} إن حروفها مقتضبة من أسمائه تعالى: الكافي أو الكريم أو الكبير، والهاء من هادي، والياء من حكيم أو رحيم، والعين من العليم أو العظيم، والصاد من الصادق، وقيل مجموعها اسم من أسمائه تعالى، حتى قيل هو الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وقيل اسم من أسماء القرآن، أي بتسمية جديدة، وليس في ذلك حديث يعتمد.
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)}.
افتتاح كلام، فيتعيّن أن {ذِكْرُ} خبر مبتدأ محذوف، مثلُه شائع الحذف في أمثال هذا من العناوين.
والتقدير: هذا ذكر رحمة ربّك عبده.
وهو بمعنى: اذكر.
ويجوز أن يكون {ذِكْرُ} أصله مفعولًا مطلقًا نائبًا عن عامله بمعنى الأمر، أي اذكر ذكرًا، ثمّ حول عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات كما حُول في قوله: {الحمد لله} وقد تقدم في [سورة الفاتحة: 2].
ويرجحه عطف {واذكر في الكتاب مريم} [مريم: 16] ونظائرِه.
وقد جاء نظم هذا الكلام على طريقة بديعة من الإيجاز والعدوللِ عن الأسلوب المتعارف في الإخبار، وأصل الكلام: ذكر عبدنا زكرياء إذ نادى ربّه فقال: رب.. إلخ.
فرحمة ربّك، فكان في تقديم الخبر بأن الله رحمه اهتمام بهذه المنقبة له، والإنباء بأن الله يرحم من التجأ إليه، مع ما في إضافة {ربّ} إلى ضمير النبيء وإلى ضمير زكرياء من التنويه بهما.
وافتتحت قصة مريم وعيسى بما يتصل بها من شؤون آل بيت مريم وكافلها لأنّ في تلك الأحوال كلها تذكيرًا برحمة الله تعالى وكرامته لأوليائه.
وزكرياء نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو زكرياء الثاني زوج خالة مريم، وليس له كتاب في أسفار التوراة. وأما الذي له كتاب فهو زكرياء بن برخيا الذي كان موجودًا في القرن السادس قبل المسيح.
وقد مضت ترجمة زكرياء الثاني في سورة آل عمران ومضت قصّة دعائه هنالك.
و{إذ نادى ربه} ظرف ل {رحمتِ}.
أي رحمة الله إياه في ذلك الوقت، أو بدل من {ذكر} أي اذكر ذلك الوقت. والنداء: أصله رفع الصوت بطلب الإقبال.
وتقدم عند قوله تعالى: {ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان} في سورة آل عمران (193) وقوله: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} في [سورة الأعراف: 43].
ويطلق النداء كثيرًا على الكلام الذي فيه طلب إقبال الذات لعمل أو إقبال الذهن لوعي كلام، فلذلك سميت الحروف التي يفتتح بها طلب الإقبال حروف النداء. ويطلق على الدعاء بطلب حاجة وإن لم يكن فيه نداء لأن شأن الدعاء في المتعارف أن يكون جهرًا. أي تضرعًا لأنه أوقع في نفس المدعو. ومعنى الكلام: أن زكرياء قال: يا رب، بصوت خفي. وإنما كان خفيًا لأن زكرياء رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أنّ الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس، فلذلك لم يدعه تضرعًا وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالبًا، فلعل يقين زكرياء كاف في تقوية التوجه، فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء. ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفيًا، لأنه نداء من يسمع الخفاء. والمراد بالرحمة: استجابة دعائه، كما سيصرح به بقوله: {يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} [مريم: 7]. وإنما حكي في الآية وصف دعاء زكرياء كما وقع فليس فيها إشعار بالثناء على إخفاء الدعاء.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)}.
جملة {قَالَ ربّ إنِّي وهَنَ العَظمُ مِني} مبنية لجملة {نادى ربه} [مريم: 3]. وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله: {فَهَب لِي مِن لَّدُنكَ ولِيًّا}. وإنّما كان ذلك تمهيدًا لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد. والله يجيب المضطر إذا دعاه، فليس سؤاله الولدَ سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر. ووصَف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالًا ومئالًا، فكان وهن العظم وعموم الشيب حالًا مقتضيًا للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة، فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت. والخبران من قوله: {وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا} مستعملان مجازًا في لازم الإخبار، وهو الاسترحام لحاله. لأن المخبَر بفتح الباء عالم بما تضمنه الخبران.
والوهن: الضعف. وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأنّ العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلغه الوهن إلاّ وقد بلغ ما فوقه. والتعريف في (العظَمُ) تعريف الجنس دال على عموم العظام منه. وشبّه عموم الشّيب شعرَ رأسه أو غلَبَته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم أسود، تشبيهًا مركبًا تمثيليًا قابلًا لاعتبار التفريق في التشبيه، وهو أبدع أنواع المركب. فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل {اشتَعَل}. وأسند الاشتعال إلى الرأس، وهو مكان الشعر الذي عمّه الشيب، لأنّ الرأس لا يعمه الشيب إلاّ بعد أن يعمّ اللّحية غالبًا، فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن. وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي، لأنّ الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب، فلما جيء باسم الشيب تمييزًا لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته، وخصوصية التفصيل بعد الإجمال، مع إفادة تنكير {شَيبًا} من التعظيم فحصل إيجاز بديع. وأصل النظم المعتاد: واشتعل الشيب في شعر الرأس. ولِما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبنى المعاني والبيان كان لها أعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب (الكشاف) ووضحه صاحب (المفتاح) فانظُرهما.
وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله:
واشتعل المُبيضّ في مُسوده مثلَ ** اشتعال النّار في جزل الغضا

ولكنّه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل: (ماء ولا كصدّى).
والشيب: بياض الشعر. ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر، ونقصانها بسبب كبر السن غالبًا، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر، وقد يبيضّ الشعر مِنْ مرض. وجملة {لم أكن بدعائك رب شقيًا} معترضة بين الجمل التمهيدية، والباء في قوله: {بدعائك} للمصاحبة. والشقيّ: الذي أصابته الشقوة، وهي ضد السعادة، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السّعي. وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفًا. ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجرى المثل في حصول السعادة من شيء. ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم: {عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيًا} [مريم: 48] أي عسى أن أكون سعيدًا. أي مستجاب الدعوة. وفي حديث أبي هُريرة عن النبيء صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه في شأن الذين يذكرون الله ومن جالسهم «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم» أي يسعد معهم. وقال بعض الشعراء، لم نعرف اسمه وهو إسلامي:
وكنت جليسَ قعقاع بن شَوْر ** ولا يشقَى بقعقاع جليس

أي يسعد به جليسُه. والمعنى: لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود الدعوة منك، أي أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه. وهذا تمهيد للإجابة من طريق غير طريق التمهيد الذي في الجمل المصاحبة له بل هو بطريق الحث على استمرار جميل صنع الله معه، وتوسلٌ إليه بما سلف له معه من الاستجابة.
روي أن محتاجًا سأل حاتمًا الطائي أو مَعْنَ بن زائدةَ قائلًا: (أنا الذي أحسنت إليّ يوم كذا) فقال: (مرحبًا بمن تَوسل بنا إلينا).
وجملة {وإني خفت الموالي من ورائي} عطف على جملة {واشتعل الرأس شيبًا} أي قاربت الوفاة وخفت الموالي من بعدي. وما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبي صالح عن النبيء صلى الله عليه وسلم مرسلًا أنه قال: «يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله» فلعلّه خشي سوء معرفتهم بما يخلّفه من الآثار الدينية والعلمية. وتلك أعلاق يعزّ على المؤمن تلاشيها، ولذلك قال: {يرثني ويرث من آل يعقوب} فإن نُفوس الأنبياء لا تطمح إلا لمعالي الأمور ومصالح الدين وما سوى ذلك فهو تبع. فقوله: {يَرِثُني} يعني به وراثة ماله. ويؤيّده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله». والظواهر تؤذن بأن الأنبياء كانوا يُورَثون، قال تعالى: {وورث سليمان داوود} [النمل: 16]. وأما قول النبيء صلى الله عليه وسلم «نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركْنَا صدقةٌ» فإنما يريد به رسول الله نفسَه، كما حمله عليه عُمر في حديثه مع العبّاس وعليّ في (صحيح البخاري) إذ قال عمر: «يريد رسول الله بذلك نفسه»، فيكون ذلك من خصوصيات محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان ذلك حكمًا سابقًا كان مراد زكرياء إرث آثار النبوءة خاصة من الكتب المقدّسة وتقاييده عليها.
والموالي: العصبة وأقرب القرابة، جمع مولى بمعنى الولي.
ومعنى: {من ورائي} من بعدي، فإن الوراء يطلق ويراد به ما بعد الشيء، كما قال النّابغة:
وليس وراء الله للمرء مطلب

أي بعد الله.
فمعنى {من ورائي} من بعد حياتي. و{من ورائي} في موضع الصفة ل {الموالي} أو الحال. وامرأة زكرياء اسمها أليصابات من نسل هارون أخي موسى فهي من سبط لاوي. والعاقر: الأنثى التي لا تلد، فهو وصف خاص بالمرأة، ولذلك جرد من علامة التأنيث إذ لا لبس. ومصدره: العُقر بفتح العين وضمها مع سكون القاف. وأتى بفعل (كان) للدلالة على أن العقر متمكن منها وثابت لها فلذلك حرم من الولد منها.
ومعنى {مِنْ لَدنكَ} أنه من عند الله عندية خاصة، لأنّ المتكلّم يعلم أنّ كلّ شيء من عند الله بتقديره وخلقه الأسْباب ومسبباتها تبعًا لخلقها، فلما قال: {من لدنك} دلّ على أنه سأل وليًا غير جارٍ أمره على المعتاد من إيجاد الأولاد لانعدام الأسباب المعتادة، فتكون هبته كرامة له. ويتعلّق {لِي} و{مِن لَّدُنكَ} بفعل {هَبْ}. وإنما قدم {لِي} على {مِن لدُنكَ} لأنه الأهم في غرض الداعي، وهو غرض خاص يقدم على الغرض العام. و{يَرِثُني} قرأه الجمهور بالرفع على الصفة ل {وَلِيَّا}. وقرأه أبو عمرو، والكسائي بالجزم على أنه جواب الدعاء في قوله: {هَبْ لِي} لإرادة التسبب لأن أصل الأجوبة الثمانية أنها على تقدير فاء السببية. و{آل يَعْقُوبَ} يجوز أن يراد بهم خاصة بني إسرائيل كما يقتضيه لفظ {آل} المشعر بالفضيلة والشرف، فيكون يعقوب هو إسرائيل؛ كأنه قال: ويرث من آل إسرائيل، أي حملة الشريعة وأحْبار اليهودية كقوله تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة} [النساء: 54]، وإنما يذكر آل الرجل في مثل هذا السياق إذا كانوا على سننه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} [آل عمران: 68] وقولِه: {ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء: 3]، مع أن الناس كلهم ذرية من حملوا معه. ويجوز أن يراد يعقوب آخر غير إسرائيل. وهو يعقوب بن ماثان، قاله: معقل والكلبي، وهو عمّ مريم أخو عمران أبيها، وقيل: هو أخو زكرياء، أي ليس له أولاد فيكون ابنُ زكرياء وارثًا ليعقوب لأنه ابن أخيه، فيعقوب على هذه هو من جملة الموالي الذين خافهم زكرياء من ورائه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{كهيعص (1)}.
هذه خمسة حروف مقطعة، تُنطق باسم الحرف لا بمُسمَّاه، لأن الحرف له اسم وله مُسمَّى، فمثلًا كلمة (كتب) مسماها (كتب) أما بالاسم فهي كاف، تاء، باء. فالاسم هو العَلَم الذي وُضِع للدلالة على هذا اللفظ.
وفي القرآن الكريم سور كثيرة ابتُدِئَتْ بحروف مُقطعة تُنطق باسم الحرف لا مُسمَّاه، وهذه الحروف قد تكون حَرفًا واحدًا مثل: {ن}، {ص}، {ق} وقد تكون حرفين مثل: {طه}، {طس}. وقد تكون ثلاثة أحرف مثل: {الم}، {طسم}. وقد تأتى أربعة أحرف مثل: {المر}. وقد تأتى بخمسة أحرف مثل: {كهيعص}، {حمعسق}. لذلك نقول: لابد في تعلُّم القرآن من السماع، وإلاَّ فكيف تُفرِّق بين الم في أول البقرة فتنطقها مُقطَّعة وبين {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] فتنطقها موصولة؟ وصدق الله تعالى حين قال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]. ونلاحظ في هذه الحروف أنه يَنطِق بالمسمّى المتعلم وغير المتعلم، أما الاسم فلا ينطق به ولا يعرفه إلا المتعلّم الذي عرف حروف الهجاء. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أميًّا لم يجلس إلى معلم، وهذا بشهادة أعدائه، فمن الذي علمه هذه الحروف؟ إذن: فإذا رأيت هذه الحروف المقطعة فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى نطق بها بأسماء الحروف، ونحن نتكلم بمُسمَّيات الحروف لا بأسمائها. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ}.
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)}.
الذكْر: له معانٍ متعددة، فالذكْر هو الإخبار بشيء ابتداءً، والحديث عن شيء لم يكُنْ لك به سابق معرفة، ومنه التذكير بشيء عرفته أولًا، ونريد أن نُذكِّرك به، كما في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55]. ويُطلَق الذكْر على القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وفي القرآن أفضل الذكر، وأصدق الأخبار والأحداث. كما يُطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند الله، كما جاء في قوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. والذكْر هو الصِّيت والرِّفْعة والشرف، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وقوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أي: فيه صِيتكم وشرفكم، ومن ذلك قولنا: فلان له ذِكْر في قومه. ومن الذكْر ذِكْر الإنسان لربه بالطاعة والعبادة، وذكْر الله لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ومن ذلك قوله تعالى: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. فقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [مريم: 2] أي: هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة الله به. والرحمة: هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يُديم له صلاحه لمهمته، إذن: فكلُّ راحم ولو من البشر، وكلُّ مرحوم ولو من البشر، ماذا يصنع؟ يعطى غيره شيئًا من النصائح تُعينه على أداء مهمته على اكمل وجه، فما بالك إنْ كانت الرحمة من الخالق الذي خلق الخلق؟ وما بالك إذا كانت رحمة الله لخير خَلْقه محمد؟ إنها رحمة عامة ورحمة شاملة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء وأكرمهم وخاتمهم، فلا وَحْيَ ولا رسالة من بعده، ولا إكمال. إذن فهو أشرف الرسل الذين هم أشرف الخَلْق، ورحمة كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته، ومهمة محمد أكرم المهمات. وكلمة (رَحْمَة) هنا مصدر يؤدي معنى فعله، فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول، كما نقول: آلمني ضَرْب الرجل ولدَه، فمعنى: {رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} [مريم: 2] أي: رحم ربُّك عبده زكريا. لذلك قال تعالى: {رَحْمَةِ رَبِّكَ} [مريم: 2] لأنها أعلى أنواع الرحمة، وإن كان هنا يذكر رحمته تعالى بعبده زكريا، فقد خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فرحمة الله تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به، بل هي رحمة عامة لجميع العاملين، وهذه منزلة كبيرة عالية.