فصل: خامسا: قاعدة الوصل والفصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.خامسا: قاعدة الوصل والفصل:

قال الزركشي:
(اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلماته في الخط، كما توصل حروف الكلمة الواحدة، والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط كما تفصل كلمة عن كلمة).
وجاءت لفظة (إنما) بالكسر موصولة إلا في موضع واحد: {إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام: 134]، وجاءت لفظة (إنما) بالفتح موصولة إلا في موضعين: {وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ} [الحج: 62]، {وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ} [لقمان: 30].
وجاءت لفظة (كلما) موصولة إلا في ثلاث مواضع، في النساء وإبراهيم والمؤمنون، لأن (ما) وقعت على أنواع مختلفة في الوجود، {وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]، وما عداها جاءت موصولة لأنها وقعت على شيء لا ينفصل كالزمان في قوله: {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً} [البقرة: 25].
وجاءت لفظة (أينما) موصولة في قوله: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا}، {أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}. وجاءت مفصولة في قوله: {أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ}.
وجاءت (بئسما) موصولة إلا في ثلاثة مواضع، اثنان في البقرة وواحد في الأعراف في قوله: {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي}.
وجاءت (يوم هم) موصولة في قوله: {يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}، وجاءت مفصولة في قوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}.
وجاءت لفظة (في ما) موصولة ومفصولة كما في قوله: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234]، {فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ} [الأنبياء: 102].
وجاءت لفظة (لكيلا) موصولة في ثلاثة مواضع ومفصولة فيما عداها:
{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ} [الحديد: 23]، {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} [النحل: 70].
وهناك أحرف الإدغام، مثل قوله: (عمّا) (مما) (عمّن) (ممن) (ألّن) (ألّا)، وجاءت هذه الأحرف موصولة ومفصولة، والأمثلة واضحة ومفصلة في كتاب البرهان الذي أفاض في ذكر كل لفظة، مبديا تفسيره لحالات الاتصال والانفصال محاولا التعليل، واضعا قواعد عامة لكل هذه الحالات ولا يخلو الأمر من تكلف فيما يبدو لي، لصعوبة وضع معايير واضحة أو إيجاد أسباب مطردة.

.سادسا: قاعدة تعدد القراءة:

وبمقتضى هذه القاعدة تكتب بعض الكلمات التي تقرأ بقراءتين برسم إحدى القراءتين، كما في قوله تعالى: {ملك يوم الدّين}، تكتب بغير ألف، وتقرأ بالألف وبحذف الألف، وكذلك الأمر في كثير من الألفاظ التي تكتب وفقا لإحدى القراءتين، وتقرأ بالقراءتين معا، وهذا كله خارج نطاق القراءات الشاذة، وأحيانا تراعى في الرسم بعض القراءات الشاذة.
وهذه القواعد تؤكد أن الرسم العثماني روعيت في كتابته غايات ومقاصد، منها ما يمكن إدراكه ومعرفته، ومنها ما لا يمكن إدراكه وتفسيره، ولهذا فإن الرسم العثماني يظل إحدى أهم دعائم النص القرآني من حيث التوثيق والضبط والدقة، وسواء قلنا بأن هذا الرسم توقيفي أم اجتهادي فإن الحفاظ على هذا الرسم يجب أن يظل من المطالب الضرورية، وهذا لا يمنع عند الضرورة من كتابة القرآن بالإملاء الموافق للنطق المعتاد في الكتابة العربية لأغراض تعليمية، وبخاصة إذا كثر اللحن في قراءة القرآن، وتعذرت على الناس قراءته بطريقة سليمة وصحيحة.

.مصير المصاحف العثمانية:

اعتمد (عثمان) مصحفه بعد أن أتمت اللجنة المكلفة بجمعه وكتابته عملها، وأشرف على ضبط الآيات، وترتيب السور بحيث يكون هذا الترتيب موافقا للتلاوة والترتيل الذي كان حفاظ القرآن يلتزمون به.
وأصبحت المصاحف العثمانية هي المصاحف المعتمدة في الأمصار الإسلامية الرئيسية في مكة والشام والبصرة والكوفة والمدينة بالإضافة إلى المصحف الإمام الذي هو الأساس في المصاحف الأخرى، وهو المصحف الأول الذي نسخت منه المصاحف.
وأوفد عثمان مع كل مصحف قارئا يقرئه ويسهر عليه، فقد كلف زيد بن ثابت أن يقرئ الناس بالمدينة، وأوفد عبد الله بن السائب إلى مكة، والمغيرة بن شهاب إلى الشام، وأبا عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة، وعامر بن عبد القيس إلى البصرة، وأصبح هؤلاء هم قراء القرآن وحفظته يسهرون على حفظ المصحف المعتمد، ويقرءون الناس به، ولا يسمحون بأن يناله تحريف أو تبديل، أو زيادة أو نقص.
وكان هذا العمل من أعظم الأعمال التي أدت إلى حفظ القرآن، وتوحيد نصه وقراءته ورسمه، لئلا يقع فيه تغيير أو تبديل، وظلت المصاحف العثمانية في الأمصار الإسلامية نسخا معتمدة أجمعت الأمة على قبولها وصحتها وسلامة ما جاء فيها.
ومن أبرز ما كان يميز المصاحف العثمانية أنها كانت خالية من النقط والشكل والزركشة والنقوش، وجاءت روايات عن بعض العلماء السابقين في القرن الخامس والسادس تؤكد رؤيتهم لبعض المصاحف العثمانية، وقال ابن كثير صاحب التفسير المشهور وكتاب البداية والنهاية في التاريخ في كتابه فضائل القرآن: إنه رأى مصحف عثمان الموجود في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وكان قبل ذلك بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة 518 هـ، وقد وصفه بقوله: وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل.
وذكر ابن الجزري صاحب كتاب: (النشر في القراءات العشر) وابن فضل الله العمري صاحب: (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) إنهما رأيا المصحف الشامي.
وروى الدكتور صبحي الصالح في كتابه: (مباحث في علوم القرآن) أن بعض الباحثين يميل إلى أن هذا المصحف أمسى زمنا ما في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد ثم نقل إلى إنكلترا، وهناك فريق من الباحثين يرجح أن هذا المصحف بقي في مسجد دمشق حتى احترق فيه سنة 1310 هـ، ونقل الدكتور الصالح عن الدكتور يوسف العش أن أحد قضاة دمشق أخبره بأنه قد رأى المصحف الشامي قبل احتراقه، وكان محفوظا بالمقصورة وله بيت خشب.
وهناك مصاحف كثيرة في المكتبات الإسلامية وخزانات المساجد المشهورة يدعى المشرفون عليها أنها من المصاحف العثمانية، وبعضها واضح في عدم مطابقته لما كانت عليه المصاحف العثمانية، من حيث النقط والشكل والزركشة والفواصل، مما يؤكد أنه كتب بعد ذلك.
والأمر في جميع الأحوال لا يترتب عليه شيء، فالمصاحف موحدة ونصوصها واحدة، ولا مجال للتفريق أو الاختلاف، بين المصاحف العثمانية والمصاحف التي كتبت بعد ذلك حتى اليوم، ولم يلق كتاب من أوجه العناية والرعاية والضبط ما لقيه القرآن، سواء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر صحابته أو في العصور اللاحقة، فالقرآن واحد في جميع العصور، ولدى جميع المذاهب الإسلامية، وحتى من اعترض على ذلك من بعض المذاهب الإسلامية متهما عثمان بالتحيز، طاعنا في قراره بإحراق المصاحف الأخرى، فإنه سرعان ما يعترف بأن مصحف عثمان هو أدق المصاحف وأصحها، وأن المصاحف التي أمر بإحراقها لم يبذل فيها من وسائل الضبط والدقة ما يجعلها في مستوى مصحف الإمام الذي أجمعت الأمة على قبوله، وأجمع الصحابة على مطابقته لمصحف أبي بكر الذي اعتمد في جمعه على كتاب الوحي وحفظة القرآن.

.حكم النقط والتحلية:

روى الحافظ ابن أبي داود السجستاني المتوفى سنة 316 هـ في كتابه المصاحف، روايات كثيرة عن الصحابة والتابعين تؤكد كراهيتهم لتصغير المصحف والتعشير والفواتح، وروى عنه قوله: لا تكتب المصاحف صغارا، وروي عن سفيان الثوري قوله: كانوا يكرهون النقط والتعشير وإحصار السور، وروي عن عبد الله بن مسعود قوله: جردوا القرآن ولا تخلطوا به ما ليس منه، وروى شعبة عن أبي رجاء قال: سألت محمد بن سيرين عن المصحف ينقط بالنحو قال: أخشى أن يزيدوا في الحروف.
ويبدو من الروايات أن كراهية النقط ليست لذات النقط، وإنما كانت بسبب الخوف من زيادة في القرآن، ولهذا نسب إلى ابن سيرين قوله: لا بأس بنقط المصحف.
وكانوا يكرهون تحلية المصاحف بالذهب، وروي عن أبي بن كعب قوله:
إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فعليكم الدثار، وروي عن أبي الدرداء قوله: (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فعليكم الدثار).
وروى الأعمش قال: (مرّ على عبد الله بن مسعود بمصحف قد زين بالذهب فقال: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته في الحق)، وهناك روايات أخرى تؤكد جواز تحلية المصحف.
وكره بعض العلماء بيع المصاحف وشراءها، وروي عن علقمة وابن سيرين والأعمش والنخعي كراهة بيع المصاحف، وقال أبو العالية: وددت أن الذين يبيعون المصاحف، ضربوا، وأجاز ابن عباس شراء المصاحف وكره بيعها، وروى الأعمش عن ابن عباس أنه سئل عن بيع المصاحف فقال: لا بأس إنما يأخذون أجور أيديهم.
والأمر كما يبدو تحدده الظروف، فكل أمر مبالغ فيه من حيث التحلية فهو مكروه، والتجارة في المصاحف مكروهة، ما لم تكن النية في ذلك خدمة المصحف الشريف.
والواضح أن تعدد الروايات والأحكام في الأمر الواحد يشير إلى الرغبة في صيانة القرآن عن كل ما يسيء إليه، سواء كانت تلك الإساءة شكلية كالمبالغة في التحلية والتزيين، أو كانت مما يسيء إلى مكانة القرآن، والأصل في القرآن أنه لا يجوز أن يعتبر سلعة من السلع التجارية، لأن ذلك مما يفقده قداسته في النفوس، ويخضعه لما تخضع له السلع التجارية من أنواع الغش والتدليس، فإذا كان البيع والشراء لا يعبر عن هذه المعاني، فليس هناك ما يمنع من خدمة القرآن، عن طريق الطباعة والنشر، ومن يفعل ذلك بنية خدمة القرآن وتيسير أمر توزيعه، فهو مأجور ومثاب على فعله، ومثل هذه الأمور تحكمها مقاصد وغايات، فما يرفضه العقل ويتنافى مع الفضيلة فهو حرام على وجه التأكيد، وما يرتضيه العقل ويقره العرف ولا يتنافى مع الفضيلة فهو جائز ومباح.

.العناية بالمصاحف ومراحل تحسينه:

كان المصحف العثماني الإمام هو أول مصحف اكتمل جمعه وترتيبه وإعداده بصورته النهائية، وبعد أن أجمعت الصحابة على قبوله نسخت منه عدة نسخ أرسلت إلى الأمصار الرئيسية لكي تكون المصحف المعتمد.
ومنذ ذلك اليوم بدأت المصاحف تنسخ، ويدخل عليها من أنواع التحسين والتجويد ما يجعلها في متناول القراء، من حيث تعدد خطوطها والتفنن في إدخال التحسينات التي تيسر قراءتها، وإدخال النقط والشكل لضبط الألفاظ والمفردات، حتى لا يقع أي اختلاف في النقط أو تباين في ضبط الكلمات.
وكانت مسيرة التجويد والتحسين منسجمة مع حركة المجتمع الإسلامي وتطوره، فقد كانت الدولة بسيطة المعالم في المدينة، عكفت في أيامها الأولى على تثبيت أركان العقيدة، ومواجهة خصومها، ثم اتسعت اهتماماتها، ونمت مطامحها، وامتد سلطانها في مشرق ومغرب، وكان لابد من مواكبة هذا التطور بتنظيم محكم، وإعداد سديد، واهتمام بمظاهر العمران الذي يجسد عظمة الدولة واستقرارها، ويؤكد استجابة شعبها لما تتطلبه الحضارة من اهتمام بأساليب التطوير والتحسين، من تنظيم للجيوش، وإنشاء لدواوين المال والإدارة والجند، واهتمام بقضايا الفكر والثقافة، وتدوين للعلوم.
وأول ما انصرف الاهتمام به العناية بكتاب الله، شرحا لآياته، وتوضيحا لأحكامه، وتفسيرا لمفرداته، وبيانا لأسباب نزوله، وتدوينا لتاريخه، وتجويدا لخطوطه، وضبطا لألفاظه، لئلا يقع أي التباس في كلمة من كلماته.
وأول مظاهر هذا التحسين إدخال النقط والشكل فيه، لضبط النطق به، لئلا يقع فيه تحريف أو تبديل، أو لحن أو ما يشبه اللحن، ولم يكن مصحف عثمان منقطا أو مشكولا، ربما لعدم معرفة العرب بالنقط في ذلك الحين، أو لإمكان قراءة القرآن بما يوافق القراءات المختلفة، وبما يستجيب لكل اللهجات العربية، وبما يوافق الأحرف السبعة.
ومن الطبيعي أن يتوقف بعض العلماء أمام النقط والشكل موقف التردد والهيبة، كشأن كل أمر جديد، وسرعان ما أدرك الجميع أهمية الضبط والتيسير في القراءة، لكيلا يقع لحن في النطق أو لبس في ضبط بعض الكلمات.
وتشير الروايات إلى أن التفكير في الأمر بدأ في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي خاف من أثر الاختلاط بين العرب والعجم على اللغة، فأمر الحجاج بن يوسف بأن يهتم بالأمر، ويقال بأن الحجاج أصلح الرسم القرآني في أحد عشر موضعا.
وتؤكد الروايات كما قال السيوطي في الإتقان أن: (أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل: الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثي)، ويبدو أن الحسن البصري كان دوره محصورا في مباركة هذا العمل وتأييده وتشجيعه، إذ لم يعرف له اهتمام بالنقط والشكل، وكان من الضروري أن ينال هذا العمل موافقة العلماء.
وهناك روايات تشير إلى أن بعض العلماء كانوا يكرهون النقط والشكل، وروى عن النخعي أنه كره نقط المصاحف، وروي مثل هذا عن ابن سيرين، وقال ابن مسعود: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، وقال مالك: (لا بأس بالنقط في المصاحف التي يتعلم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا). وقال الحليمي: (تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه، أما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا، وإنما هي دلالات على هيئة المقروء، فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها).
وقال ابن مجاهد: (ينبغي ألا يشكل إلا ما يشكل)، وقال النووي: نقط المصحف وشكله مستحب، لأنه صيانة له من اللحن والتحريف.
وكان أبو الأسود الدؤلي معنيا بشئون اللغة، واشتهر أنه أول من وضع العربية، وأن الخليل بن أحمد أول من وضع العروض، ومن الطبيعي أن تتوجه الأنظار إليه، وأن يطالب بإعداد ما يضمن سلامة النص القرآني، ويقال بأن زياد ابن أبيه والي البصرة طالبه بأن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتثاقل أبو الأسود وتباطأ، ولعله تهيب الأمر، ولما سمع قارئا يقرأ قوله تعالى:
{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، بجر اللام في (رسوله) قال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، وذهب إلى زياد بعد أن أفزعه الأمر وقال له: (قد أجبتك إلى ما سألت) وعكف على إعداد نقط دالة على الحركات والسكون.
ولا شك أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من شرع في الأمر ببدايات بسيطة، إذ لا يعقل أن يقوم بهذا العمل شخص واحد، ولا يمكن أن يكتمل من خلال عمل في جيل واحد، فمثل هذه الأعمال الكبيرة، تبتدئ كفكرة، ثم يشرع فيها بخطوة، ثم تعقبها خطوات متعسرة خجولة تتعثر مرة وتتقدم أخرى إلى أن يستقر الأمر على الأفضل والأيسر مما لا مشقة فيه على الأمة.
وهناك رواية تقول: بأن أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر، ويقال: إنه قام بتنقيط مصحف ابن سيرين المتوفى سنة 110 هـ، وكان يحيى بن يعمر من أهل البصرة، واتهم في عصر الحجاج بالتشيع ونفي إلى خراسان، وهناك اشتهرت مكانته وأصبح (قاضي مرو).
وتابع العمل من بعده نصر بن عاصم الليثي تلميذ أبي الأسود الدؤلي، وكان أحد قراء البصرة، وهناك من يقول: بأنه أول من نقط المصاحف، ولا يمكن الترجيح بين هذه الأقوال والروايات، لصعوبة تحديد دور كل فرد في هذا العمل الكبير الذي يرجح أن خطواته الأولى كانت من تفكير أبي الأسود الدؤلي، ثم تكاملت واستقامت على يد كل من يحيى بن يعمر وتلميذه نصر بن عاصم.
ويكفينا هذا القدر من بيان نشأة المرحلة الثانية من تاريخ القرآن التي تمثلت في دور التحسين والتجويد والإكمال، لكي يكون الرسم القرآني مكتمل المعالم، واضح الألفاظ، مزودا بإشارات ضابطة للكلمة، مبينة لكيفية النطق بها.