فصل: 1- اتصال السند بالقرآن الكريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.رسم المصحف توقيفي أم اصطلاحي:

ذهب جمهور العلماء إلى أن رسم المصحف العثماني توقيفي لا تجوز مخالفته واستدلوا بما يأتي:
1- أن القرآن الكريم كتب كله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يملي على كتاب الوحي، ويرشدهم في كتابته بوحي من جبريل عليه السلام فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: «ألق الدواة وحرف القلم وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم وحسن الله، ومد الرحمن وجود الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك». هذا إلى إقراره صلى الله عليه وسلم الكتاب على جميع ما كتبوه، وتقريره صلى الله عليه وسلم أحد وجوه السنن المعروفة.
2- إطباق القراء على إثبات الياء في {وَاخْشَوْنِي} في [البقرة: 150] وحذفها في الموضعين في المائدة وغير ذلك مما خولف بين نظائر مختلفة بالحذف والإثبات والزيادة والنقصان كما ذكرنا آنفا، فلو كان الرسم بالاجتهاد لما خولف فيه بين هذه النظائر والمتشابهات.
ولعل قائلا يقول: لعل هذا من تعدد كتاب الوحي، فإنهم لم يكونوا سواء في الحذق بالهجاء فمن ثم نشأ هذا الاختلاف.
والجواب: لو كان الأمر على ما يزعم هذا القائل لناقش بعضهم بعضا في هذا. ولاسيما والأمر يتعلق بالأصل الأول للإسلام. وتوفر الدواعي لحرية الرأي في هذا العصر، ولكن لم ينقل إلينا أنهم تناقشوا في هذا، أو عاب بعضهم بعضا كتابته على هذا الاحتمال يبعد غاية البعد في مثل قوله تعالى: {فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} [الحاقة: 19، 20] فقد كتبت كتبيه بغير ألف، وكتبت حِسابِيَهْ بألف والكلمتان سواء.
3- لما جاور الرسول الرفيق الأعلى، وجمع القرآن في الصحف والمصاحف أجمع الصحابة على رسمه ولاسيما الخلفاء الراشدون ولم يخالف في ذلك أحد وإجماعهم حجة، وقد حث الرسول على الاقتداء بالخليفتين من بعده فقال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي حديث العرباض بن سارية: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقد أقر هذا الرسم الخلفاء الراشدون، ومن ورائهم الصحابة فكان لزاما على الأمة الإسلامية من بعدهم أن يقتدوا بهم، ويتمسكوا برسم المصحف، ولا يحيدوا عنه، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم. فمن ثم ذهب جمهور الأئمة إلى التزام هذا الرسم.

.أقوال الأئمة في التزام الرسم العثماني:

قال أشهب: سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى. رواه الداني في المقنع، قال: ولا مخالف له من علماء الأمة، وقال في موضع آخر. سئل مالك عن الحروف في القرآن من الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك قال: لا، قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ، نحو أُولُوا وأُولاتُ.
وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو نحو ذلك.
وفي حواشي المنهج في فقه الشافعية- كلمة {الربوا}- تكتب بالواو والألف كما جاء في الرسم العثماني، ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف، لأن رسمه سنة متبعة. وفي كتاب المحيط البرهاني في فقه الحنفية ما نصه: إنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني. وقال البيهقي في شعب الإيمان: من كتب مصحفا ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئا فإنهم كانوا أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم، إلى غير ذلك من أقوال الأئمة في التزام الرسم العثماني.
ويسلمنا هذا الرأي إلى معرفة هل تعلم النبي صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة بعد أن لم يكن يعلمها أو أنه استمر على أميته وإليك بيان وجه الحق في هذا.

.هل صار النبي قارئا كاتبا:

اتفق العلماء قاطبة على أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى الناس قاطبة، لم يكن قارئا ولا كاتبا، وذلك كي تقوم عليهم الحجة، وتنتفي الشبهة في ثبوت معجزته الكبرى: وهو القرآن؛ إذ لو كان قارئا كاتبا لراجت شبهتهم وقوي ارتيابهم في أن ما جاء به نتيجة قراءة واطلاع، ونظر في الكتب السابقة، وقد أشار إلى هذا الحق تبارك وتعالى فقال: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 48، 49].
أما بعد أن قامت حجته، وعلت كلمته وعجزت العرب عن أن يأتوا بأقصر سورة منه، ولم يعد للريب والظنون موضع فقد كان محل بحث ونظر فمن العلماء من قال: إنه تعلم القراءة والكتابة، ومنهم من منع وقال: إنه استمر على أميته. وقد بسط القول في هذا الإمام الآلوسي، فقد قال عقب تفسيره للآية السابقة ما نصه:
واختلف في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا فقيل إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب، وقال: إنه الأصح، وادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ وروى ابن أبي شيبة وغيره ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ، ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال: سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه.
وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر» ثم قال: ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب: «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» الحديث وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي، وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة وحكاه عن السمناني وصنف فيه كتابا وسبقه إليه ابن منية، ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاه وكتب إلى علماء الأطراف، فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد أميته صلى الله عليه وسلم لا ينافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم، وقد رد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب» وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب، فمعناه أمر بالكتابة كما يقال كتب السلطان بكذا لفلان، وتقديم قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِ} على قوله سبحانه: {وَلا تَخُطُّهُ} كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا، وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد، وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده، فقال: يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة: وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة، إلا إذا قيل بحجية المفهوم، والظان ممن لا يقول بحجيته، ثم قال الآلوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه: ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو وأكثر من بعث إليهم، وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون، لا يكتبون ولا يحسبون، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد، وأما ما ذكر من تأويل: كتب بأمر بالكتابة فخلاف الظاهر، وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض. أن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب، كالنص في أنه صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه، ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة، وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا فالله تعالى أعلم والذي يترجح عندي أنه صلى الله عليه وسلم تعلم الكتابة بعد أن لم يكن يعلمها وكفى في هذا دليلا حديث البخاري، ومستبعد جدّا من مثل رسول الله- في ذكائه وفطنته ولقانته- أن لا يتعلم الكتابة بعد طول إملاء القرآن على الكاتبين ورؤيته لهم وهم يكتبون، على أنه من الممكن جدّا أن يكون الله سبحانه وتعالى علم نبيه القراءة والكتابة كما علمه غيرها- مما لم يكن يعلم بطريق وهبي من غير ضرورة إلى تعلم أو كسب، وأيّا كان الأمر فلا تنافي بين كونه صلى الله عليه وسلم بعث وهو أميّ، وكون رسم القرآن توقيفيا؛ لأنه إن كان تعلم الكتابة فالأمر ظاهر وإن لم يكن تعلمها فيكون تلقينه وإرشاده الكاتبين إلى طريقة كتابته بتلقين من جبريل ووحي منه.

.فوائد الرسم العثماني:

لاتباع رسم المصحف العثماني فوائد منها:

.1- اتصال السند بالقرآن الكريم:

فلا يجوز لأحد أن يقرأه أو يقرئه غيره إلا بروايته بسند متصل؛ فمن علم القواعد العربية، ولكن لا يأخذ القرآن عن غيره لا يعرف قراءته على وجهها الصحيح، فإن بعض ألفاظه كتبت على غير النطق بها كما أسلفنا، فإن فواتح بعض سوره كتبت برسم الحروف لا بهيئات النطق بها، وإلا فقل لي- بربك- كيف يتوصل القارئ إلى قراءة كهيعص و{حم * عسق} و{طسم} و{المص} وغيرها فالذي يعلم العربية والهجاء ولكنه لا يتلقى عن غيره كيفية القراءة والأداء، قد يقرؤها على غير وجهها الصحيح؛ إذ النطق بها صحيحة يتوقف على التلقي والسماع من قراء القرآن وحفاظه المشتغلون به، واتصال السند من خصائص القرآن الكريم بالنسبة لغيره من الكتب السماوية، وبه ظل محفوظا كما وعد الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} وليس من شك في أن الرسم المخصوص له أعظم الأثر في اتصال السند؛ إذ لو كانت جميع ألفاظه مكتوبة طبق النطق بها لتجرأ الكثيرون على قراءته بغير رواية عن غيره، وحينئذ يفوتهم معرفة ما فيه من طرق الأداء من مد وتخفيف وإمالة وإظهار وإدغام وإخفاء إلى غير ذلك من طرق الأداء.