فصل: مقدمة المصنف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن




.مقدمة المصنف:

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي رحمه الله تعالى: الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأكرمنا بسنة نبيه، وجعلنا من العاملين بها، والمتبعين لها، والمتفقهين فيها، ونسأله أن ينفعنا بما علمنا منها، وأن يرزقنا العمل بها، والنصيحة للمسلمين فيها، وأداء الحق في إرشاد متعلميها، وإفادة طلابها ومقتبسيها، وأن يصلي أولًا وآخرًا على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، سابق الأنبياء شرفًا وفضيلة، وسابقهم دينًا وشريعة، ليكون دينه قاضيًا على الأديان، وملته باقية آخر الزمان، لا يستولي عليها نسخ، ولا يتعقب حكمه حكم، وليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما بعد: فقد فهمت مساءلتكم إخواني أكرمكم الله، وما طلبتموه من تفسير كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث، وإيضاح ما يُشكل من متون ألفاظه، وشرح ما يستغلق من معانيه، وبيان وجوه أحكامه، والدلالة على مواضع الانتزاع والاستنباط من أحاديثه، والكشف عن معاني الفقه المنطوية في ضمنها لتستفيدوا إلى ظاهر الرواية لها باطن العلم والدراية بها، وقد رأيت الذي ندبتموني له وسألتمونيه من ذلك أمرًا لا يسعني تركه كما لا يسعكم جهله، ولا يجوز لي كتمانه كما لا يجوز لكم إغفاله وإهماله فقد عاد الدين غريبًا كما بدأ وعاد هذا الشأن دارسة أعلامه خاوية أطلاله وأصبحت رباعه مهجورة ومسالك طرقه مجهولة.
ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه إخوانًا متهاجرين وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.
فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث فإن الأكثرين منهم إنمّا وكدهم الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب لا يراعون المتون ولا يتفهمون المعاني ولا يستنبطون سيرها ولا يستخرجون ركازها وفقهها وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن وادعوا عليهم مخالفة السنن ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون وبسوء القول فيهم آثمون.
وأما الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلاّ على أقله ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ووافق آراءهم التي يعتقدونها وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنًا فيه وهؤلاء وفقنا الله وإياهم لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاد من قبل نفسه طلبوا فيه الثقة واستبرءوا له العهدة. فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلاّ ما كان من رواية ابن القاسم والأشهب وضربائهم من تلاد أصحابه فإذا وجدت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلًا.
وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلاّ ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه.
وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله. وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأستاذيهم.
فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع وروايتها عن هؤلاء الشيوخ إلاّ بالوثيقة والثبت فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة، الواجب حكمه اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضاه ولا في صدورنا غلا من شيء مما أبرمه وأمضاه.
أرأيتم إذا كان للرجل أن يتساهل في أمر نفسه ويتسامح عن غرمائه في حقه فيأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبًا عنه كولي الضعيف ووصي اليتيم ووكيل الغائب وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارًا للذمة فهذا هو ذاك إما عيان حس وإما عيان مثل ولكن أقوامًا عساهم استوعروا طريق الحق واستطالوا المدة في درك الحظ وأحبوا عجالة النيل فاختصروا طريق العلم واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللًا وجعلوها شعارًا لأنفسهم في الترسم برسم العلم واتخذوها جُنّة عند لقاء خصومهم ونصبوها دريئة!!! للخوض والجدال يتناظرون بها ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور في عصره والرئيس المعظم في بلده ومصره هذا وقد دسّ لهم الشيطان حيلة لطيفة وبلغ منهم مكيدة بليغة. فقال لهم هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية فاستعينوا عليه بالكلام وصلوه بمقطعات منه واستظهروا بأصول المتكلمين يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم ظنه وأطاعه كثير منهم واتبعوه إلاّ فريقًا من المؤمنين.
فيا للرجال والعقول أنّى يذهب بهم وأنّى يختدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم والله المستعان.
وقد انتهيت أكرمكم الله إلى ما دعوتم إليه بجهدي وأتيت من مسألتكم بقدر ما تيسرت له ورجوت أن يكون الفقيه إذا ما نظر إلى ما أثبته في هذا الكتاب من معاني الحديث ونهجت من طرق الفقه المتشعبة عنه دعاه ذلك إلى طلب الحديث وتتبع علمه وإذا تأمله صاحب الحديث رغبه في الفقه وتعلمه والله الموفق له وإليه أرغب في أن يجعل ذلك لوجهه وأن يعصمني من الزلل فيه برحمته.
واعلموا رحمكم الله أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله وقد رزق القبول من الناس كافة فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم فلكل فيه ورد ومنه شرب وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من مدن أقطار الأرض. فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد إلاّ أن كتاب أبي داود أحسن رصفا وأكثر فقها وكتاب أبي عيسى أيضًا كتاب حسن والله يغفر لجماعتهم ويحسن على جميل النية فيما سعوا له مثوبتهم برحمته.
ثم اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام حديث صحيح وحديث حسن وحديث سقيم. فالصحيح عندهم ما اتصل سنده وعدلت نقلته والحسن منه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء وكتاب أبي داود جامع لهذين النوعين من الحديث فأما السقيم منه فعلى طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب أعني ما قلب إسناده ثم المجهول وكتاب أبي داود خلي منها بريء من جملة وجوهها فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره فإنه لا يألو أن يبين أمره ويذكر علته ويخرج من عهدته.
وحكي لنا، عَن أبي داود أنه قال ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس على تركه.
وكان تصنيف علماء الحديث قبل زمان أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوهما فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارا وقصصا ومواعظ وآدابًا.
فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود ولذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب فضربت فيه أكباد الإبل ودامت إليه الرحل.
أخبرني أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب أبي العباس أحمد بن يحيى قال: قال إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود هذا الكتاب ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.
وحدثني عبد الله بن محمد المسكي قال: حدثني أبو بكر بن جابر خادم أبي داود قال: كنت معه ببغداد فصلينا المغرب إذ قرع الباب ففتحته فإذا خادم يقول هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه فأذن له فدخل وقعد ثم أقبل عليه أبو داود وقال ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت فقال خلال ثلاث فقال وما هي قال تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنًا ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج، فقال هذه واحدة هات الثانية قال وتروي لأولادي كتاب السنن. فقال نعم هات الثالثة قال وتفرد لهم مجلسًا للرواية فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة فقال أما هذه فلا سبيل إليها لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
قال ابن جابر: فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون في كم حيري ويضرب بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة.
وسمعت ابن الأعرابي يقول: ونحن نسمع منه هذا الكتاب فأشار إلى النسخة وهي بين يديه لو أن رجلًا لم يكن عنده من العلم إلاّ المصنف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة.
قال أبو سليمان: وهذا كما قال لا شك فيه لأن الله تعالى أنزل كتابه تبيانًا لكل شيء وقال: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب إلاّ أن البيان على ضربين بيان جلي تناول الذكر نصا وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمنًا فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله سبحانه: {لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44] فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان، وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدما سبقه إليه ولا متأخرا لحقه فيه وقد كتبت لكم فيما أمليت من تفسيرها وأوضحته من وجوهها ومعانيها وذكر أقاويل العلماء واختلافهم فيها علما جما فكونوا به سعداء نفعنا الله تعالى وإياكم برحمته.

.كتاب الطهارة:

.من باب التخلي عند قضاء الحاجة:

أخبرنا أبو الحسن على بن الحسن أنا أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم نا أبو بكر بن داسة نا أبو داود حدثنا مُسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا إسماعيل بن عبد الملك عن الزبير عن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد».
البراز بالباء المفتوحة اسم للفضاء الواسع من الأرض كنوا به عن حاجة الإنسان كما كنوا بالخلاء عنه يقال تبرز الرجل إذا تغوط وهو أن يخرج إلى البراز كما يقال تخلى إذا صار إلى الخلاء وأكثر الرواة يقولون البراز بكسر الباء وهو غلط وإنما البراز مصدر بارزت الرجل في الحرب مبارزة وبرازًا.
وفيه من الأدب استحباب التباعد عند الحاجة عن حضرة الناس إذا كان في براح من الأرض. ويدخل في معناه الاستتار بالأبنية وضرب الحجب وإرخاء الستور وإعماق الآبار والحفائر في نحو ذلك في الأمور الساترة للعورات.

.ومن باب الرجل يتبوأ لبوله:

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو التيَّاح قال: حدثني شيخٌ أن عبد الله بن عباس كتب إلى أبي موسى يسأل عن أشياء فكتب إليه أبو موسى أني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يبول فأتى دَمِثًا في أصل جدار فبال ثم قال: «إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتَدْ لِبَوله».
الدمث المكان السهل الذي يُخد فيه البول فلا يرتد على البائل. يُقال للرجل إذا وُصف باللين والسهولة أنه لدمث الخلق وفيه دماثة.
وقوله: «فليرتد» أي ليطلب وليتحر، ومنه المثل إن الرائد لا يكذب أهله، وهو الرجل يبعثه القوم يطلب لهم الماء والكلأ، يقال رادهم يرودهم ريادًا وارتاد لهم ارتيادًا.
وفيه دليل على أن المستحب للبائل إذا كانت الأرض التي يريد القعود عليها صلبة أن يأخذ حجرًا أو عودًا فيعالجها به ويثير ترابها ليصير دمثًا سهلًا فلا يرتد بوله عليه.
قلت: ويشبه أن يكون الجدار الذي قعد إليه النبي صلى الله عليه وسلم جدارًا عاديًا غير مملوك لأحد من الناس فإن البول يضر بأصل البناء ويوهي أساسه وهو عليه السلام لا يفعل ذلك في ملك أحد إلاّ بإذنه، أو يكون قعوده متراخيًا عن جذمه!!! فلا يصيبه البول فيضر به.

.ومن باب ما يقول إذا دخل الخلاء:

قال أبو داود: حدثنا عمرو هو ابن مرزوق البصري حدثنا شعبة عن قتادة عن النَّضر بن أنس عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هذه الحُشُوش محتَضرَةٌ فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخُبُثِ والخَبائِث».
«الحشوش» الكنف وأصل الحش جماعة النخل الكثيفة وكانوا يقضون حوائجهم إليها قبل أن يتخذوا الكنف في البيوت وفيه لغتان حَش وحُش. ومعنى محتضرة أي تحضرها الشياطين وتنتابها.
و«الخُبث» بضم الباء جماعة الخبيث.
و«الخبائث» جمع الخبيثة يريد ذكران الشياطين وإناثهم.
وعامة أصحاب الحديث يقولون الخبث ساكنة الباء وهو غلط والصواب الخبُث مضمومة الباء، وقال ابن الأعرابي: أصل الخبث في كلام العرب المكروه فإن كان من الكلام فهو الشتم وإن كان من المِلل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار.

.ومن باب كراهة استقبال القبلة عند الحاجة:

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن سليمان، قال: قيل: «لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال أجل لقد نهانا أن نستقبل القِبلَة بغائط أو بول وأن نستنجي باليمين وأن يستنجي أحدنا بأقلَّ من ثلاثة أحجار أو يستنجي برجيعٍ أو عظمٍ».
«الخِراءة» مكسورة الخاء ممدودة الألف أدب التخلي والقعود عند الحاجة، وأكثر الرواة يفتحون الخاء ولا يمدون الألف فيفحش معناه. ونهيه عن الاستنجاء باليمين في قول أكثر العلماء نهي تأديب وتنزيه وذلك أن اليمين مرصدة في أدب السنة للأكل والشرب والأخذ والإعطاء ومصونة عن مباشرة السفل والمغابن وعن مماسة الأعضاء التي هي مجاري الأثفال والنجاسات. وامتهنت اليسرى في خدمة أسافل البدن لإماطة ما هنالك من القذارات وتنظيف ما يحدث فيها من الدنس والشعث.
وقال بعض أهل الظاهر: إذا استنجى بيمينه لم يجزه كما لا يجزيه إذا استنجى برجيع أو عظم واحتج بأن النهي قد اشتمل على الأمرين معًا في حديث واحد فإذا كان أحد فصليه على التحريم كان الفصل الآخر كذلك.
قلت: والفرق بين الأمرين أن الرجيع نجس وإذا لاقى نجاسة لم يزلها بل يزيدها نجاسة وليس كالحجر الطاهر الذي يتناول الأذى فيزيله عن موضعه ويقطعه عن أصله، وأما اليمين فليست هي المباشرة لموضع الحدث وإنما هي آلة يتناول بها الحجر الملاقي للنجاسة، والشمال في هذا المعنى كاليمين إذ كل واحدة منهما تعمل مثل عمل الأخرى في الإمساك بالحجر واستعماله فيما هنالك، والرجيع النجس لا يعمل عمل الحجر الطاهر ولا ينظف تنظيفه، فصار نهيه عن الاستنجاء باليمين نهي تأديب وعن الرجيع نهي تحريم، والمعاني هي المصرفة للأسماء والمرتبة لها.
وحاصل المعنى أن المزيل للنجاسة الرجيع لا اليد.
وفي قوله: «وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار» بيان أن الاستنجاء بالأحجار أحد الطهرين وأنه إذا لم يستعمل الماء لم يكن بد من الحجارة أو ما يقوم مقامها وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل.
وفي قوله: «أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار» البيان الواضح أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز وإن وقع الإنقاء بما دونها. ولو كان القصد به الإنقاء حسب لم يكن لاشتراط عدد الثلاث معنى ولا في ترك الاقتصار على ما دونها فائدة إذ كان معلومًا أن الإنقاء قد يقع بالمسحة الواحدة وبالمسحتين فلمّا اشترط العدد لفظًا وكان الإنقاء من معقول الخبر ضمنًا دل على أنه إيجاب للأمرين معًا، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى لأن الماء يزيل العين والأثر فحل محل الحس والعيان ولم يحتج فيه إلى استظهار بالعدد، والحجر لا يزيل الأثر وإنمّا يفيد الطهارة من طريق الاجتهاد، فصار العدد من شرطه استظهارًا كالعدة بالأقراء لما كانت دلالتها من جهة الظهور والغلبة على سبيل الاجتهاد شرط فيها العدد وإن كانت براءة الرحم قد تكون بالقرء الواحد. ألا ترى أن الأمة تستبرأ بحيضة واحدة فتكفي. فأمّا وضع الحمل الذي دلالته من باب اليقين والإحاطة فإنه لم يحتج فيه إلى شيء من العدد، فكذلك الماء والحجارة في معانيها.
وعند أصحاب الرأي أن الإنقاء إذا وقع بالحجر الواحد كفى غير أن مرجع جملة قولهم في ذلك إلى أنه استحباب لا إيجاب، وعلى هذا تأولوا الحديث، وذلك أنهم يقولون إن كانت النجاسة هناك أكثر من قدر الدرهم فإنه لا يطهره إلاّ الماء وإن كان بقدر الدرهم فلم يزله بالحجارة أو بما يقوم مقامها وصلى أجزأه. فجاء من هذا أنه إذا أمر بالاستنجاء فإن ذلك منه على سبيل الاستحباب دون الإيجاب.
قلت: ولا ينكر على مذهبهم أن يكون المراد بالاستنجاء الإنقاء ويدخله مع ذلك التعبد بزيادة العدد، وقد قالوا في غسل النجاسات بإيجاب الثلاث، فإن لم تزل فإن الزيادة عليها واجبة حتى يقع الإنقاء، وقد أجاز الشافعي ثلاث امتساحات بحروف الحجر الواحد وأقامها مقام ثلاثة أحجار. ومذهبه في تأويل الخبر أن معنى الحجر أوفى من اسمه وكل كلام كان معناه أوسع من اسمه فالحكم للمعنى وكأنه قال: الحجر وحروفه وجوانبه والاستنجاء غير واقع بكل الحجر لكن ببعضه، فأبعاض الحجر الواحد كأبعاض الأحجار.
وأما نهيه عن الاستنجاء بالعظم فقد دخل فيه كل عظم من ميتة أو ذكيّ لأن الكلام على إطلاقه وعمومه، وقد قيل إن المعنى في ذلك أن العظم زلج لا يكاد يتماسك فيقلع النجاسة وينشف البلة، وقيل إن العظم لا يكاد يعرى من بقية دسم قد علق به. ونوع العظام قد يتأتى فيه الأكل لبني آدم لأن الرخو الرقيق منه قد يتمشمش في حالة الوُجد والرفاهية والغليظ الصلب منه يدق ويستف عند المجاعة، وقد حرم الاستنجاء بالمطعوم والرجيع والعذرة. وسُمي رجيعًا لرجوعه عن حالة الطهارة إلى الاستحالة والنجاسة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد، حَدَّثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنمّا أنا لكم بمنزلة الوالد أُعلِّمُكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يَسْتَطِبْ بيمينه»، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الرَّوثِ والرِمَّة.
قوله: «إنمّا أنا لكم بمنزلة الوالد» كلام بسط وتأنيس للمخاطبين لئلا يحتشموه ولا يستحيوا عن مسألته فيما يعرض لهم من أمر دينهم كما لا يستحي الولد عن مسألة الوالد فيما عنّ وعرض له من أمر.
وفي هذا بيان وجوب طاعة الآباء وأن الواجب عليهم تأديب أولادهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين.
وقوله: «ولا يستطب بيمينه» أي لا يستنجي بها وسمى الاستنجاء استطابة لما فيه من إزالة النجاسة وتطهير موضعها من البدن يقال استطاب الرجل إذا استنجى فهو مستطيب وأطاب فهو مطيب ومعنى الطيب هاهنا الطهارة، ومن هذا قوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبًا} [النساء: 43] وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة طابة ومعناه طهارة التربة وهي سبخة فدل ذلك على جواز التيمم بالسباخ وقيل معناه الطهارة من النفاق.
وأصل الاستنجاء في اللغة الذهاب إلى النجوة من الأرض لقضاء الحاجة والنجوة المرتفعة منها كانوا يستترون بها إذا قعدوا للتخلي فقيل على هذا قد استنجى الرجل أي أزال النجو عن بدنه. والنجو كناية عن الحدث كما كنى عنه بالغائط وأصل الغائط المطمئن من الأرض كانوا ينتابونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره بخاص اسمه. ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها واستعمال الكناية في كلامها وصون الألسنة عما تصان الأسماع والأبصار عنه.
وقيل: أصل الاستنجاء نزع الشيء عن موضعه وتخليصه منه، ومنه قولهم نجوت الرطب واستنجيته إذا جنيته واستنجيت الوتر إذا خلصته من أثناء اللحم والعظم قال الشاعر:
فتبازت فتبارخت لها ** قعدة الجازر يستنجي الوتر

وفي قوله: «يأمرنا بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة» دليل على أن أعيان الحجارة غير مختصة بهذا المعنى دون غيرها من الأشياء التي تعمل عمل الحجارة وذلك أنه لما أمر بالأحجار ثم استثنى الروث والرمة فخصهما بالنهي دل على أن ما عدا الروث والرمة قد دخل في الإباحة وأن الاستنجاء به جائز ولو كانت الحجارة مخصوصة بذلك وكان كل ما عداها بخلاف ذلك لم يمكن لنهيه عن الروث والرمة وتخصيصها بالذكر معنى، وإنما جرى ذكر الحجارة وسبق اللفظ إليها لأنها كانت أكثر الأشياء التي يستنجى بها وجودًا وأقربها متناولًا، والرمة العظام البالية ويقال: إنها سميت رمة لأن الإبل ترمها أي تأكلها قال لبيد:
والنّيب إن تعر مني رمة خَلَقًا ** بعد الممات فأنى كنت اتّئر

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد، عَن أبي أيوب رواية قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا بول ولكن شرقوا وغربوا، فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله.
قوله: «شرقوا وغربوا» هذا خطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته عنى ذلك السمت فأما من كانت قبلته إلى جهة المغرب أو المشرق فإنه لا يغرب ولا يشرق، والمراحيض جمع المرحاض وهو المغتسل يقال رحضت الثوب إذا غسلته.
وقد اختلف الناس في تأويل ما اختلف من الأخبار في استقبال القبلة وتخريجها فذهب أبو أيوب إلى تعميم النهي والتسوية في ذلك بين الصحارى والأبنية وهو مذهب سفيان الثوري. وذهب عبد الله بن عمر إلى أن النهي عنه إنمّا جاء في الصحارى، فأما الأبنية فلا بأس باستقبال القبلة فيها، وكذلك قال الشعبي وإليه ذهب مالك والشافعي وقد قيل إن المعنى هو أن الفضاء من الأرض موضع للصلاة ومتعبد للملائكة والإنس والجن فالقاعد فيه مستقبلا للقبلة ومستدبرا لها مستهدف للأبصار، وهذا المعنى مأمون في الأبنية.
قلت: الذي ذهب إليه ابن عمر ومن تابعه من الفقهاء أولى لأن في ذلك جمعا بين الأخبار المختلفة واستعمالها على وجوهها كلها، وفي قول أبي أيوب وسفيان تعطيل لبعض الأخبار وإسقاط له.
وقد روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: «ارتقيت على ظهر البيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته».
قال: حدثناه عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر.
وروي أيضًا عن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها».
قال: حدثناه محمد بن بشار نا وهب بن جرير نا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر بن عبد الله.
قلت: وفي هذا بيان ما ذكرناه من صحة مذهب من فرق بين البناء والصحراء غير أن جابرًا توهم أن النهي عنه كان على العموم فحمل الأمر في ذلك على النسخ.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو بن يحيى، عَن أبي زيد عن معقل بن أبي معقل الأسدي قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط».
أراد بالقبلتين الكعبة وبيت المقدس وهذا يحتمل أن يكون على معنى الاحترام لبيت المقدس إذ كان مرة قبلة لنا. ويحتمل أن يكون ذلك من أجل استدبار الكعبة لأن من استقبل بيت المقدس بالمدينة فقد استدبر الكعبة.