فصل: كِتَابُ الْهِبَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الْهِبَةِ:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، وَالْمُرَادُ بِالتَّحِيَّةِ: الْعَطِيَّةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّحِيَّةِ: السَّلَامُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ رُدُّوهَا يَتَنَاوَلُ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْعَطِيَّةِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}.
وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ دَلِيلُ جَوَازِ الْهِبَةِ.
وَالسُّنَّةُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثْبَتْ مِنْهَا».
وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَاكْتِسَابِ سَبَبِ التَّوَدُّدِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا».
ثُمَّ الْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ فِي الْهِبَةِ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ- عِنْدَنَا- وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ؛ فَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِهِ عَلَى الْقَبْضِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ، بَلْ: أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْلَى، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» مَعْنَاهُ: لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَهُوَ الْمِلْكُ؛ إذْ الْجَوَازُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا؛ فَقَدْ ذَكَرَ أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ كَالْوَصِيَّةِ، وَتَأْثِيرُهُ: أَنَّ عَقْدَ التَّبَرُّعِ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صِفَةُ اللُّزُومِ.
وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْوَاهِبِ كَانَ قَوِيًّا؛ فَلَا يَزُولُ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يَتَأَيَّدُ بِهِ: وَهُوَ مَوْتُهُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِكَوْنِ الْمَوْتِ مُنَافِيًا لِمِلْكِهِ، وَتَسْلِيمُهُ فِي الْهِبَةِ لِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ بَعْدَ إيجَابِ عَقْدِ التَّمْلِيكِ لِغَيْرِهِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ لَهُ فِي مَالِهِ مِلْكَ الْعَيْنِ وَمِلْكَ الْيَدِ.
فَتَبَرُّعُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِ الْعَيْنِ بِالْهِبَةِ لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ عَلَيْهِ- وَهُوَ الْيَدُ-.
وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَجَبَ عَلَى الْوَاهِبِ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ التَّبَرُّعِ- بِخِلَافِ الْمُعَاوَضَاتِ-، وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ- عِنْدَنَا- فِي أَنَّهُ لَا يُوجَبُ الْمِلْكُ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ إلَّا بِالْقَبْضِ خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي الصَّدَقَةِ خِلَافٌ بَيْن الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولَانِ: إذَا أَعْلَمْت الصَّدَقَةَ جَازَتْ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقُولَانِ لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً.
وَعَنْ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْكِتَابِ؛ فَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَحَمَلْنَا قَوْلَ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى صَدَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ بِالْإِعْلَامِ يَتِمُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «يَقُولُ ابْنُ آدَم: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَك مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْت، أَوْ لَبِسْت فَأَبْلَيْت، أَوْ تَصَدَّقْت فَأَمْضَيْت، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ».
فَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْإِمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ يَكُونُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ.
ثُمَّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ الْقَرَابَاتِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ؛ لِمَا فِيهِ مَنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاسِحِ».
وَلِهَذَا بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ هِبَةً؛ فَقَبَضَهَا؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
وَذُكِرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ فَقَبَضَهَا: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا- مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا-.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ: قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَفْتَرِضُ صِلَةَ الْقَرَابَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ دُونَ الْقَرَابَةِ الْمُتَحَرِّزَةِ عَنْ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَهُوَ كَمَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} أَيْ: اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.
وَالْمُرَادُ: الرَّحِمُ الْمُتَأَبِّدُ بِالْمَحْرَمِيَّةِ.
ثُمَّ إنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلُ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقَبْضَ لِلْمَنْعِ عَنْ الرُّجُوعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا أَنَّ الْوَالِدَ إذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ هِبَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَالْوَلَدِ إذَا وَهَبَ لِوَالِدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الرُّجُوعِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ- وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ- أَوْ لِمَا فِي الرُّجُوعِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْوِلَادُ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْقَرَابَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ: مَنْ وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ هِبَةً فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا- مَا لَمْ يُعَوَّضْ مِنْهَا- لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَمْ يُثَبْ، وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ: الْعِوَضُ فَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إمَامُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْخَصْمِ، وَقَدْ قَالَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «أَيْنَمَا دَارَ الْحَقُّ فَعُمَرُ مَعَهُ، وَإِنَّ مَلَكًا يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ».
(وَعَنْ) عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَحَلَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّةُ إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ، وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُك جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ، وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ، وَلَا حُزْتِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك، وَأُخْتَاك قَالَتْ: فَقُلْت: فَإِنَّمَا هِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ- يَعْنِي أَسْمَاءَ- قَالَ: إنَّهُ أُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ فِي بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ جَارِيَةً.
ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحَلَهَا أَرْضًا لَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَأَنَّهُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ، وَالْوَلَدُ إذَا كَانَا بَالِغَيْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقِسْمَةِ- فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ-؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبْطَلَ لِعَدَمِ الْقَبْضِ، وَالْحِيَازَةِ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ، وَلَا حُزْتِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِيَازَةِ: الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: حَازَ كَذَا، أَيْ: جَعَلَهُ فِي حَيْزِهِ بِقَبْضِهِ.
وَحَازَ كَذَا، أَيْ: جَعَلَهُ فِي حَيْزِهِ بِالْقِسْمَةِ.
وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْقَبْضِ هُنَا كَانَ تَكْرَارًا، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ بِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّكْرَارِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ هِبَةَ الْمَشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَكُونُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاشَرَهَا، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، كَمَا لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَا نَقُولُ: الْهِبَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاطِلَةٌ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ التَّسْلِيمَ كَالتَّمْلِيكِ الْمُبْتَدَإِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِمَرَضِهِ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ مَمْنُوعٌ مِنْ إيثَارِ بَعْضِ وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَلَكِنْ طَيَّبَ قَلْبَهَا بِمَا قَالَ انْتِدَابًا إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ» بَدَأَ كَلَامَهُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ مُسْلِمٍ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ- خُصُوصًا فِي وَصِيَّتِهِ- ثُمَّ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى: أَنْتِ، وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا: أَنْتِ، أَيْ: أَشَدُّهُمْ مِنْ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُحِبُّ لَهَا أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا: أَنَّ الْأَفْضَلَ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْعَذَارِ الْجِيدِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ».
وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَارَ الْفَقْرَ لِنَفْسِهِ حِينَ أَنْفَقَ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا، أَوْ أَحَبَّ الْغِنَى لَهَا؛ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهَا الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: أَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى: أَنْتِ، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ- وَذَلِكَ اسْمُ مَوْضِعٍ- وَقَدْ كَانَ وَهَبَ لَهَا قَدْرَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَرَثَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَآلَهُ إلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك وَأُخْتَاك، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِتَطْيِيبٍ قَلْبِهَا، أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْلَمُ لَك فَلَا يَبْعُدُ عَنْك فَأَشْكَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلُهُ: وَأُخْتَاكِ؛ لِأَنَّهَا مَا عُرِفَتْ لَهَا إلَّا أُخْتًا وَاحِدَةً، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ فِي بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ جَارِيَةً- يَعْنِي أُمَّ حَبِيبٍ امْرَأَتَهُ، وَكَانَتْ حَامِلًا- وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا بِطَرِيقِ الْفِرَاسَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ذَلِكَ بِفِرَاسَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، فَإِنَّ مَا فِي الرَّحِمِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إلَّا اللَّهُ- تَعَالَى- كَمَا قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}.
وَلِهَذَا قِيلَ: أَفَرَسُ النَّاسِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ حَيْثُ تَفَرَّسَ فِي حَبَلِ امْرَأَتِهِ: أَنَّهَا جَارِيَةٌ، فَكَانَ كَمَا تَفَرَّسَ، وَتَفَرَّسَ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَهُ.
(وَعَنْ) عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: إذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً فَأَعْلَمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْقَبْضِ فِيمَا يُوهَبُ: لِهَذَا الصَّغِيرِ إلَى الْأَبِ- لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ أَجْنَبِيًّا- فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَاهِبُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِهِ؛ فَالْوَلَدُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَى شُرَيْحٌ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَنْ نَحْلِ أَبِيهِ؟ قَالَ: الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ: الْإِعْلَامُ؛ فَالْإِشْهَادُ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْإِتْمَامِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلتَّوَثُّقِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْوَلَدُ مَنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِالْحَجَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ.
(وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ قَالَ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إذَا وَهَبَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ هِبَةً: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مَنْ الزَّوْجِيَّةِ نَظِيرُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ؛ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّوَارُثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِغَيْرِ حَجْبٍ، وَيَمْتَنِعُ قَبُولُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِالْهِبَةِ وَهُوَ تَحْقِيقُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ مَعْنَى السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ، وَفِي الرُّجُوعِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَالنَّفْرَةِ.
وَالزَّوْجِيَّةُ بِمَعْنَى الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الْإِقْدَامُ عَلَى مَا يُضَادُّهُ، وَهَذَا كَانَ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ فِيمَا بَيْنَ الْقَرَابَاتِ.
(وَقَالَ) فِي الرَّجُلِ يَهَبُ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِبَعْضِ وَلَدِهِ، وَقَدْ أَدْرَكَ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا أَعْلَمَهُ- وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ ذَلِكَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَبِهِ يَأْخُذُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى؛ فَيَقُولُ: إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي عِيَالِهِ فَيَدُهُ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ كَيَدِهِ كَمَا فِي الصِّغَارِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَوْعِ وِلَايَةٍ لَهُ؛ لِيَجْعَلَ قَبْضَهُ بِذَلِكَ كَقَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ- وَإِنْ كَانَ يَعُولُهُمْ-؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَنِيَّ يَعُولُ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِعْلَامِ مَا لَمْ يُسْلِمُهُ إلَيْهِ.
(وَعَنْ) عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْحَبِيسِ فَقَالَ: إنَّمَا أَقْضِي وَلَسْت أُفْتِي، فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِهِ يَأْخُذُ مَنْ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ، وَهَذَا فَصْلٌ تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فِي الْعِبَادَاتِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْتِيَ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يُفْتِي لِكَيْ لَا يَقِفُ الْخَصْمُ عَلَى مَذْهَبِهِ؛ فَيَشْتَغِلُوا بِالْحِيَلِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يُفْتِي فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِهَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ- وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ- فَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ لِلْقَضَاءِ فَيَشْتَغِلُ بِمَا تَعَيَّنَ لَهُ وَيَدَعُ الْفَتْوَى لِغَيْرِهِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْضُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُفْتُونَ، وَالْقَضَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ فَتْوَى، إلَّا أَنَّهُ فَتْوَى فِيهِ إلْزَامٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَاضِي فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى مُفْتِيًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شُرَيْحًا أَفْتَى لَمَّا أَعَادَ السُّؤَالَ بِقَوْلِهِ: لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيَّنَّاهُ فِي الْوَقْفِ (وَعَنْ) ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: «جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ» وَهَكَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا- فِيمَا بَيْنَهُمْ- أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ (وَعَنْ) عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَتَصَدَّقُ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا، يَقُولُ: إنْ أَنَا مِتّ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ هُوَ رَجَعَتْ إلَيَّ، وَاَيْمُ اللَّهِ: لَا يَتَصَدَّقُ مِنْكُمْ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ لَمْ يَحُزْهَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا، ثُمَّ مَاتَ إلَّا صَارَتْ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِيَازَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْقَبْضُ، فَإِنَّهَا قُرِنَتْ بِالْقِسْمَةِ فَلَوْ حَمَلْنَا الْحِيَازَةَ عَلَى الْقِسْمَةِ: كَانَتْ تَكْرَارًا، وَلَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْقَبْضِ: كُنَّا قَدْ اسْتَفَدْنَا بِكُلِّ لَفْظٍ فَائِدَةً جَدِيدَةً وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ مَا تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ؛ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْوَرَثَةِ، وَتَأْوِيلُهُ: إذَا كَانَ الْوَلَدُ بَالِغًا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِ الْأَبِ أَوْ لَا يَكُونُ- وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ- فَإِذَا لَمْ يَقْسِمْهَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْوَلَدِ فَكَانَ مِيرَاثًا عَنْ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
(وَعَنْ) عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا هِبَةً، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ فِيهَا إذَا هِيَ ادَّعَتْ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنْ وَهَبَ هُوَ لَهَا شَيْئًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ، وَلَيْسَ مُرَادَهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الرُّجُوعِ- بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ- وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: أَنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مُكْرَهَةً: مَسْمُوعٌ، وَمِنْ الزَّوْجِ: لَا؛ لِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّوْجَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إكْرَاهِ زَوْجَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إكْرَاهِ زَوْجِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مَنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِكْرَاهُ مِنْ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَالزَّوْجُ لَا يَخَافُ ذَلِكَ مَنْ جِهَةِ امْرَأَتِهِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْمُكْرَهِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْهِبَةِ تَمَامُ الرِّضَا، وَالْإِكْرَاهُ يَعْدِمُ الرِّضَا.
قَالَ: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً مَقْسُومَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَإِنْ وَهَبَهَا لِأَجْنَبِيٍّ، أَوْ لِذِي رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَهُمَا فَصْلَانِ، أَحَدُهُمَا: إذَا وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ شَيْئًا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ عِنْدَنَا- مَا لَمْ يُعَوَّضْ مِنْهَا فِي الْحُكْمِ- وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الدَّيَّانَة، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا يَحِلُّ، فَقَدْ نَفَى الرُّجُوعَ أَوْ حَرَّمَ، وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ارْتِكَابِ الْحَرَامِ شَرْعًا، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»، وَالْعَوْدُ فِي الْقَيْءِ حَرَامٌ، فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ: الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَمُطْلَقُهُ لَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ فِيهِ كَالْبَيْعِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُضَادُّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْلِيكِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا مَا يُضَادُّ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَمَا فِيمَا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ- عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ- أَوْ أَنَّهُ بَعْضُهُ، فَلَا يَتِمُّ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ لِمَا جَعَلَهَا مُحْرَزَةً، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَيْسَ بَيْنَ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ حُزُونَةٌ، فَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا فِيمَا يَهَبُ لِصَاحِبِهِ كَالْأَخَوَيْنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «قَالَ الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ- مَا لَمْ يُثَبْ» مِنْهَا-.
وَالْمُرَادُ: حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَإِضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ كَالرَّجُلِ يَقُولُ: أَكَلْنَا خُبْزَ فُلَانٍ الْخَبَّازِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ مَدَّ هَذَا الْحَقَّ إلَى وُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحِيَّةِ: الْعَطِيَّةُ، قَالَ الْقَائِلُ: تَحِيَّتُهُمْ بِيضُ الْوَلَائِدِ بَيْنَهُمْ يُرِيدُ عَطَايَاهُمْ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ وَهَبَ هِبَةً، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فَلِيُوقِفْ وَلِيَعْرِفْ قُبْحَ فِعْلِهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: حُسْنَ فِعْلِهِ فَإِنْ أَبَى يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ: حُسْنُ فِعْلِهِ فِي الْهِبَةِ، وَقُبْحُ فِعْلِهِ فِي الرُّجُوعِ (وَعَنْ) فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنِّي وَهَبْت لِهَذَا بَازِيًا؛ لِيُثِيبَنِي وَلَمْ يُثِبْنِي، فَأَنَا أَرْجِعُ فِيهِ.
فَقَالَ فَضَالَةُ: لَا يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا النِّسَاءُ وَالشِّرَارُ مِنْ النَّاسِ؛ اُرْدُدْ (وَعَنْ) أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْوَاهِبُونَ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ وَهَبَ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَرَجُلٌ اُسْتُوْهِبَ فَوَهَبَ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا- مَا لَمْ يُعَوَّضْ- وَرَجُلٌ وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَهِيَ دَيْنٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ يُمْكِنُ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، فَيَتَمَكَّنُ الْعَاقِدُ مِنْ الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ لِلْأَجَانِبِ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ.
وَالْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدِي إلَى مَنْ فَوْقَهُ؛ لِيَصُونَهُ بِجَاهِهِ، وَإِلَى مَنْ دُونَهُ؛ لِيَخْدُمَهُ، وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ؛ لِيُعَوِّضَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ لَمَّا أَتَوْهُ بِشَيْءٍ أَصَدَقَةٌ أَمْ هِبَةٌ؟.
فَالصَّدَقَةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ- تَعَالَى- وَالْهِبَةُ يُبْتَغَى فِيهَا وَجْهُ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ.
وَمِنْهُ يُقَالُ: لِلْأَيَادِي قُرُوضٌ، وَقَالَ الْقَائِلُ: وَإِذَا جُوزِيت قَرْضًا فَاجْزِهِ إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْحَمَلُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ عِنْدَنَا، بَلْ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا يُقْصَدُ الْعِوَضُ بِالتِّجَارَاتِ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ: إظْهَارُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَالتَّوَدُّدِ وَالتَّحَبُّبِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي التِّجَارَاتِ مَشْرُوطٌ، وَفِي التَّبَرُّعَاتِ مَقْصُودٌ، وَمَعْنَى إظْهَارِ الْجُودِ أَيْضًا مَقْصُودٌ، فَإِنَّمَا يُمْكِنُ الْخَلَلُ فِي بَعْضِ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِلْفَسْخِ مَعَ أَنَّ إظْهَارَ الْجُودِ مَقْصُودُ كَرِيمِ الْخُلُقِ، وَلِهَذَا يَقُولُ: الرَّاجِعُ فِي الْهِبَةِ لَا يَكُونُ كَرِيمَ الْخُلُقِ فَأَمَّا مَقْصُودُ طِيبَةِ النَّفْسِ الْعِوَضُ، وَمَعْنَى التَّوَدُّدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعِوَضِ- كَمَا قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا».
فَإِنَّ التَّفَاعُلَ يَقْتَضِي، وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْمُفَاعَلَةِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ بِالرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا.
إلَّا الْوَالِدُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ فَيَنْفَرِدُ بِالْأَخْذِ لِحَاجَتِهِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ رُجُوعًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِي الْحُكْمِ.
كَمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ رَأَى ذَلِكَ الْفَرَسَ يُبَاعُ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكِ».
وَالشِّرَاءُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الصَّدَقَةِ حُكْمًا، وَالْمُرَادُ: لَا يَحِلُّ الرُّجُوعُ بِطَرِيقِ الدِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ إلَى جَنْبِهِ طَاوٍ» أَيْ: لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالدِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْحُكْمِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَقَّ وَاجِبٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ: التَّنْبِيهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَاحِ، وَالِاسْتِقْذَارِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ: شُبِّهَ بِعَوْدِ الْكَلْبِ فِي قَيْئِهِ، وَفِعْلُ الْكَلْبِ يُوصَفُ بِالْقُبْحِ لَا بِالْحُرْمَةِ، وَبِهِ نَقُولُ، وَأَنَّهُ يُسْتَقْبَحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَالزَّوْجَيْنِ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَاكَ، وَتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا؛ وَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ، أَوْ الرِّضَا فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ، فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءٍ، أَوْ رِضًا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَالْفَصْلُ الثَّانِي): إذَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ- عِنْدَنَا- وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ- لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ»، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَمِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ، وَفِي حَدِيثِ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَحَلَنِي أَبِي غُلَامًا، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ فَأَبَتْ أَمِّي إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: «أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَكُلُّ وَلَدِك نَحَلْته مِثْلَ هَذَا فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا جَوْرٌ، وَإِنَّا لَا نَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ؛ اُرْدُدْ» فَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالرُّجُوعِ فِيهِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ أَنْ يُفِيدَ الْإِبَاحَةَ؛ وَلِأَنَّهُ جَادَ بِكَسْبِهِ عَلَى كَسْبِهِ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ، قِيلَ: فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}: وَمَا وَلَدَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ».
وَتَأْثِيرُهُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ مِلْكِهِ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَسْبًا لَهُ، كَالْمَوْهُوبِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ جُزْءًا مِنْهُ، فَلَا يَشْكُل أَنَّهُ لَا يَتِمُّ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَصَّ الْوَالِدُ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ الْوَلَدُ فِيهِ كَالتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَادِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَلَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ، وَحُجَّتُنَا: مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ فَهُوَ الْإِمَامُ لَنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ قَدْ تَمَّتْ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِلْكًا وَعَقْدًا، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ، كَالِابْنِ إذَا وَهَبَ لِأَبِيهِ أَوْ الْأَخِ لِأَخِيهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَالِدِ مَعَ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْعُقُوقِ وَإِنَّمَا أَمَرَ الْوَالِدَ أَنْ يَحْمِل وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ، وَلَا يُقَالُ: مَقْصُودُ الْوَالِدِ أَنْ يَخْدُمَهُ الْوَلَدُ، وَلَمَّا رَجَعَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى خَفِيٌّ لَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوَلَدِ إذَا وَهَبَ لِوَالِدِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَخُصَّهُ بِإِكْرَامٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْكَسْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِمُكَاتَبِهِ، أَوْ لِمُعْتَقِهِ: لَا يَرْجِعُ فِيهِ، وَهُوَ كَسْبُهُ أَيْضًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ- لَا مِلْكُهُ- بِخِلَافِ عَبْدِهِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا الْوَالِدَ: وَلَا الْوَالِدَ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (إلَّا) تُذْكَرُ بِمَعْنَى (وَلَا).
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أَيْ، وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً} أَيْ: وَلَا خَطَأً.
أَوْ الْمُرَادُ: إلَّا الْوَالِدَ؛ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِأَخْذِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ- عَلَى مَا قَرَّرْنَا-.
وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَوْلُهُ: فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ، لَمْ يُنْقَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَشَاهِيرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا، وَلَمْ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ، وَعِنْدَنَا: فِي مِثْلِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، وَلَكِنْ كَانَ فَوَّضَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَهَبَهُ لَهُ إنْ رَآهُ صَوَابًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اُرْدُدْ أَيْ: أَمْسِكْ مَالَك، وَارْجِعْ إلَى رَحْلِك، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ فِي الصِّحَّةِ، فَلَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَصَّ عَائِشَةَ بِالْهِبَةِ لَهَا فِي صِحَّتِهِ- كَمَا رَوَيْنَا- وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فَرَجَعَ أَبِي فِي وَصِيَّتِهِ، وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ كَلَامٌ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَالِدِ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سَاوُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ حَتَّى فِي الْقَبْلِ، وَلَوْ كُنْت مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْت الْإِنَاثَ».
وَالِاعْتِمَادُ: عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ.
وَذُو الرَّحِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَمٍ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَرَابَةِ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ وَحِرْمَة النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ الْمَحْرَمُ الَّذِي لَيْسَ بِرَحِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ؛ فَكَانَتْ الْهِبَةُ بَيْنَهُمَا لِمَقْصُودِ الْعِوَضِ فَإِذَا لَمْ يُنَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً لَمْ يَزْدَدْ خَيْرًا.