فصل: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.مَوَانِعُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

وَالْمَوَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ: إمَّا أَخْذُ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ قَدْ تَمَّ، وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا رُجُوعَ بَعْدَ نَيْلِ الْعِوَضِ، وَأَنْ يَزْدَادَ الْمَوْهُوبُ فِي نَدَمِهِ خَيْرًا، فَإِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ الْهِبَةُ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا الْهِبَةُ، وَلَا يَتَأَتَّى الرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَ فِي سِعْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ فِيهِ، فَأَمَّا الْعَيْنُ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ.
وَمِنْهَا أَنْ يَخْرُجَ الْمَوْهُوبُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَاد فِي الْهِبَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ بِالرُّجُوعِ يَنْتَهِي ذَلِكَ الْمِلْكُ، فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي مِلْكٍ آخَرَ.
وَمِنْهَا أَنْ يَمُوتَ الْوَاهِبُ فَلَيْسَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِعَقْدِ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، فَلَا يَخْلِفُ مُوَرِّثهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَمُوتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَوْهُوبِ إلَى وَارِثِهِ، وَلَوْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِي حَيَاتِهِ إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ الْوَاهِبُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ: فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا إمَّا الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ: بَطَلَتْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ، وَكَانَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهِ، فَكَمَا أَنَّ مَوْتَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْإِيجَابِ قَبْلَ الْقَبُولِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ مِلْكَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي الْقِيَاسِ: لَا يَمْلِكُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَمْلِكُهُ، نُصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الزِّيَادَاتِ).
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْبِضَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَبْضِ- لَا مُتَمَلِّكًا-؛ وَلِأَنَّ إيجَابَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَبْضًا بِإِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا حَتَّى لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ بَلْ أَوْلَى؛ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ مَلِكَهُ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ، فَإِنَّمَا يَقْبِضُ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَهُنَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يُمَلَّكْ بِالْعَقْدِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنْ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ ثُمَّ إيجَابُ الْبَيْعِ يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبُولِ فَكَذَلِكَ إيجَابُ الْهِبَةِ يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوجِبِ إتْمَامُ تَبَرُّعِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ فِي الْقَبْضِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُسَلَّطًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ.
عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْقَبْضُ هُنَاكَ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصُودَهُ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ لَهُ فَلِهَذَا لَا يَجْعَلُهُ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ فَقِيَاسُ الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبُولُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ بِإِذْنِ الْمُوجِبِ كَانَ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ هُنَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِيَتَقَوَّى بِهِ السَّبَبُ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَإِذْنُهُ يَحْتَاجُ فِي الْقَبْضِ إلَى إذْنِ الْمَالِكِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً فَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ غَائِبًا لَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ بِقَبْضِهِ دَلَالَةً فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فَإِذَا قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ مُلِّكَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا نَحَرَ هَدَايَاهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَقْتَطِعَ فَلْيَقْتَطِعْ وَانْصَرَفَ» فَكَانَ إذْنًا بِالْقَبْضِ لِمَجْهُولٍ يُمَلَّكُهُ بِالْقَبْضِ فَلَأَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِلْمَعْلُومِ كَانَ أَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا أُذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَمُرَادُهُ التَّفَرُّدُ بِالرُّجُوعِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ؛ فَكَانَ الرَّاجِعُ مُسْتَدِيمًا لِمِلْكِهِ، وَالْمَالِكُ يَنْفَرِدُ بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ يُعِيدُ إلَى نَفْسِهِ مِلْكًا هُوَ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُوَ يَطْلُبُ لِحَقِّهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَمْنَعُ تَمَلُّكهُ فَكَانَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا إلَى الْقَاضِي كَمَا فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَوْدَعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ شَيْئًا ثُمَّ لَقِيَهُ فَوَهَبَهُ لَهُ، وَلَيْسَ الشَّيْءُ بِحَضْرَتِهِمَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ إذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: قَبِلْت وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ)؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالْيَدُ مُسْتَدَامَةٌ فَاسْتِدَامَتُهَا كَإِنْشَائِهَا بَعْدَ قَبُولِ الْهِبَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلضَّمَانِ؛ فَيَدُ الْأَمَانَةِ تَنُوبُ عَنْهُ- بِخِلَافِ الشِّرَاءِ- فَإِنَّ الْمُودَع إذَا اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُودِعِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِحَاضِرَةٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ قَبْضُ ضَمَانٍ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ دُونَ قَبْضِ الضَّمَانِ، وَالضَّعِيفُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْقَوِيِّ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعَارِيَّةِ وَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجَر قَبْضُ أَمَانَةٍ كَقَبْضِ الْمُودَعِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، قَالَ: (، وَالنَّحْلَى وَالْعُمْرَى، وَالْعَطِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ لَا الْعِبَارَةُ عَنْهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَازَ الْعُمْرَى، وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ، يَعْنِي: شَرْطَ الْعَوْدِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.
أَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَرَابَتِهِ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالصَّدَقَةِ نِيلُ الثَّوَابِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، وَلَا رُجُوعَ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِتَمَامِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَالَ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ فَيَكُونُ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْطِي فِيهِ مِنَّةٌ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُتَمَلَّكِ مِنْ جِهَتِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ فِيهَا.
وَيَسْتَوِي فِي الْهِبَةِ حُكْمُ الرُّجُوعِ إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَالْمَقْصُودُ: الْعِوَضُ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ فَالْمَقْصُودُ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَفِي هَذَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ سَوَاءٌ.
قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ عَبْدًا لِأَخِيهِ، وَلِأَجْنَبِيٍّ، وَقَبَضَاهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ)؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ: مَقْصُودُهُ: الْعِوَضُ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ.
قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لِأَخِيهِ هِبَةً، وَهُوَ عَبْدٌ فَقَبَضَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ وَقَعَ لِلْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاصِمُ فِي الرُّجُوعِ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمِلْكَ وَالْيَدَ لَهُ، فَلَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إذَا كَانَ الْمَوْلَى أَجْنَبِيًّا.
قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لِعَبْدَ أَخِيهِ هِبَةً فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ)، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمِلْكَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ وَقَعَ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا كَمَا كَانَ وَهَبَ لِلْمَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ، وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْعَبْدِ فَالْمَقْصُودُ: الْمَوْلَى، وَهُوَ قَرِيبُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ صِلَةُ الرَّحِمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِ وَارِثه، أَوْ لِعَبْدِ قَاتَلَهُ كَانَ ذَلِكَ كَالْوَصِيَّةِ لِمَوْلَاهُ حَتَّى لَا يَصِحَّ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الرُّجُوعِ يُخَاصَمُ الْمَالِك، وَهُوَ قَرِيبٌ لَهُ، وَفِي مُخَاصِمَتِهِ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الصِّلَةُ مَا تَمَّتْ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ عَقْدًا، وَمِلْكًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَ وَهَبَ لِأَخِيهِ، وَهُوَ عَبْدٌ لِغَيْرِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ حَتَّى إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُعَاوَضَةً فَلَيْسَ فِيهِ حَقُّ الرُّجُوعِ، وَبَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ لَا رُجُوعَ، وَالْعَقْدُ هُنَا لِلْعَبْدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ يُعْتَبَرُ مِنْهُ دُونَ الْمَوْلَى، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْهُ: دِينُ الْعَبْدِ حَتَّى إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ خَمْرًا صَحَّتْ الْهِبَةُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا- وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مُسْلِمًا- وَالْمِلْكُ بِحُكْمِ الْهِبَةِ يَقَعُ لِلْعَبْدِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ، وَلِهَذَا يُقَدِّمُ فِيهِ حَاجَةَ الْعَبْدِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ اسْتِغْنَاءِ الْعَبْدِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ فَيَخْلُفُهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ: الْمِلْكُ يَقَعُ لِلْمَوْلَى، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ فَيَخْلُفُ الْقَاتِلَ فِي ذَلِكَ مَوْلَاهُ، وَهُوَ نَظِيرُ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ الْعَقْدُ لِلْعَبْدِ- وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ- فَلَا يَنْفَكُّ هَذَا الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِ الْعِوَضِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ إذَا لَمْ يُعَوَّضْ.
(فَإِنْ قِيلَ): فَإِذَا وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَبْدِ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الْمَوْلَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ (قُلْنَا): هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ الثَّابِتُ لَهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الْعَقْدِ هَذَا الِانْتِقَالُ كَانَ مَعْلُومًا، فَلَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ، (فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يُقْصَدُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْعَبْدِ الْعِوَضَ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِوَضِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْعَبْدِ- أَصْلًا- لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدُ الْعِوَضُ بِهِ كَمَا لَا يُرْجَعُ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْفَقِيرِ، (قُلْنَا): الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُعَوَّضَ بِمَنَافِعِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَمِنْ أَهْلِ أَنْ يُعَوَّضَ بِكَسْبِهِ عِنْدَ إذْنِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ مِنْهُ: مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْحُرِّ- وَهُوَ الْعِوَضُ- وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ.
فَالْبُطْلَانُ هُنَاكَ لِإِيثَارِ بَعْض الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ بِالْمِلْكِ لَا بِالْعَقْدِ فَاعْتَبَرْنَا مِنْ يَقَعُ لَهُ الْمِلْكُ، وَهُنَا الرُّجُوعُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْعِوَضَ مَقْصُودٌ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ أَيْضًا، فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى مَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ أَوْ الْمِلْكُ لَهُ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَجْنَبِيًّا ثَبَتَ حَقُّ الرُّجُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ عَبْدًا لِأَخِيهِ لِأُمِّهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِقَرَابَةِ الْعَبْدِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ بِدَلِيلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَكَانَ هَذَا- وَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا- سَوَاءً، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرَ الْهِنْدُوَانِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَا يَرْجِعُ هُنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ- عِنْدَنَا-؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ بِهَذَا الْعَقْدِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ بَيْنِ عَبِيدِ مَوْلَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ صِلَةَ الرَّحِمِ دُونَ الْعِوَضِ، وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُهُ عِنْدَ هَذَا الْمَوْلَى دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ صِلَةِ رَحِمِ مَوْلَاهُ، فَسَوَاءٌ اعْتَبَرْنَا الْعَقْدَ أَوْ الْمِلْكَ، أَوْ اعْتَبَرْنَاهُمَا، فَالْمَقْصُودُ: صِلَةُ الرَّحِمِ دُونَ الْعِوَضِ.
قَالَ: (حَرْبِي دَخَلَ عَلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَلَهُ عِنْدَنَا أَخ مُسْلِمٌ، فَوَهَبَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ شَيْئًا، وَسَلَّمَهُ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا مُسْلِمًا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا؛ وَلِأَنَّ الرَّحِمَ مَعَ الْمَحْرَمِيَّةِ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، كَمَا أَنَّهُ مُوجِبٌ الْعِتْقَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ، وَالْمُسْلِمُ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَضْ الْمَوْهُوب لَهُ حَتَّى رَجَعَ الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، بَطَلَتْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبِيًّا كَمَوْتِهِ، فَإِنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ، وَمَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْهِبَةَ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الْوَاهِبُ فَقَدْ بَطَلَتْ الْهِبَةُ، وَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِهِ فَيُوقَفُ حَتَّى يَحْضُرَ هُوَ، أَوْ نَائِبُهُ فَيَأْخُذَ، وَلَا يَبْعَثَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلَّفَهُ فِي دَارِنَا، وَهَذَا لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأَمَانِ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَهُ هُنَا، فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ أَذِنَ لِلْمُسْلِمِ فِي قَبْضِهِ، وَقَبَضَهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ: جَازَ- اسْتِحْسَانًا- وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ، وَلَا يَبْقَى حُكْمُ إذْنِهِ فِي الْقَبْضِ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضٍ مُتَمِّمٍ لِلْهِبَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ بَقَائِهِ حَيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ إذْنَهُ فِي الْقَبْضِ بَاقٍ بَعْدَ لَحَاقِهِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ إذْنِهِ فِي قَبْضِ هَذَا الْمَالِ بَعْدَ لَحَاقِهِ مُعْتَبَرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ هَذَا الرَّجُلَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، فَلَأَنْ يَبْقَى إذْنُهُ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا بَقِيَ إذْنُهُ: يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ.
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ: أَنَّ هُنَاكَ الْمَالَ صَارَ حَقًّا لِوَارِثِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إذْنٌ مُعْتَبَرٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَهَذَا الْمَالُ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ، فَكَانَ إذْنُهُ فِيهِ مُعْتَبَرًا؛ فَلِهَذَا يُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِهِ اسْتِحْسَانًا.
قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِامْرَأَةٍ هِبَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا)؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ- حِينَ وَهَبَ لَهَا- عَلِمْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ (فَإِنْ قِيلَ): بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ تُزَوِّج نَفْسَهَا مِنْهُ- وَقَدْ فَعَلَتْ-؛ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ، قُلْنَا: هَذَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَرْعِيٍّ فِيمَا شُرِعَتْ الْهِبَةُ لَهُ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ، وَبِالنِّكَاحِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْمِلْكُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ، فَلَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.
قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ هِبَةً، ثُمَّ أَبَانَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا كَانَتْ فِي حَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْعِوَضَ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ فِيهَا.
قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِابْنِهِ الْكَبِير عَبْدًا، وَهُوَ فِي عِيَالِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ أَوْ وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ فِي عِيَالِهِ تَحْتَ يَدِهِ فَيَقُومُ قَبْضُهُ لَهُمْ مَقَامَ قَبْضِهِمْ- كَمَا لَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ- وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الصَّغِيرَ إذَا كَانَ فِي عِيَالِ أَجْنَبِيٍّ فَوَهَبَ- هُوَ- لَهُ- أَوْ غَيْرُهُ- هِبَةً، وَقَبَضَهُ مَنْ يَعُولُهُ: تَمَّتْ الْهِبَةُ، وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا سِوَى أَنَّهُ يَعُولُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا وِلَايَة لَهُ عَلَى وَلَدِهِ الْبَالِغِ وَلَا عَلَى زَوْجَتِهِ فِيمَا وَرَاءَ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَقَبْضِ الْهِبَةِ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ هُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الْبَالِغِ، فَهُوَ كَالْغَنِيِّ إذَا تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَاكِينِ وَيَعُولُهُمْ، فَلَا يَنُوبُ قَبْضُهُ عَنْ قَبْضِهِمْ فِي إتْمَامِ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ، بِخِلَافِ الْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ وَلِيُّهُ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ يَعُولُ يَتِيمًا: إنَّمَا يُعْتَبَرُ قَبْضُهُ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْيَتِيمِ وَلِيٌّ يَقْبِضُ لَهُ، وَهُنَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَلِيُّ نَفْسِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَبْضِ مَنْ يَعُولُهُ فِي حَقِّهِ، كَمَا إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِ أَجْنَبِيٍّ، وَلَهُ أَبٌ أَوْ جَدٌّ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَبْضُ مَنْ يَعُولُهُ فِي إتْمَامِ الْهِبَةِ لَهُ قَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ وَأَشْهَد عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْلُومٌ: فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْقَبْضُ فِيهِ بِإِعْلَامِ مَا وَهَبَهُ لَهُ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالْإِشْهَادُ لَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ الْهِبَةُ تَتِمُّ بِالْإِعْلَامِ.
إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِشْهَادَ احْتِيَاطًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ جُحُودِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ عَنْ جُحُودِهِ بَعْدَ إدْرَاكِ الْوَلَدِ.
أَمَّا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَالْهِبَةُ تَامَّةٌ بِدُونِ الْإِشْهَادِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ فِي عِيَالِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ نَوْعَ وِلَايَةٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحْفَظُهُ وَتَحْفَظُ مَالَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوِلَايَةِ يَكْفِي لِقَبْضِ الْهِبَةِ.
وَالصَّدَقَةُ فِي قِيَاسِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَبْضِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي عِيَالٍ أُمِّهِ فَوَهَبَتْ لَهُ عَبْدًا، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ مَيْتٌ، وَلَا وَصِيَّ لَهُ: جَازَتْ الْهِبَةُ، وَقَبْضُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لَوْ كَانَ حَيًّا)؛ لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ مَعْنَى الْإِحْرَازِ- كَالْحِفْظِ- وَلِلْأُمِّ وِلَايَةُ حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ، فَكَانَتْ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ كَالْأَبِ.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي عِيَالٍ عَمِّهِ، فَقَبَضَهُ الْعَمُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَخ، أَوْ أُمٌّ فَقَبَضَ الْعَمُّ لَهُ قَبَضَ أَيْضًا)؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوِي بِالْأَخِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْحِفْظِ لَهُ فِي مَالِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ، وَبِسَبَبِ قَرَابَتِهِ الْقَرِيبَةِ يَثْبُتُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوِلَايَةِ كَقَرَابَةِ الْعَمِّ لِقَرَابَةِ الْأَخِ ثُمَّ تَأَيَّدَتْ قَرَابَةُ الْعَمِّ بِكَوْنِ الْيَتِيمِ فِي عِيَالِهِ؛ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ لَهُ بِقَبْضِهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ، وَصِيٌّ فَوَهَبَ لَهُ هِبَةً- وَهُوَ فِي عِيَالِهِ- وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ: جَازَ، وَقَبِلَ مُرَادَهُ وَصِيُّ الْأُمِّ أَوْ الْأَخُ فَأَمَّا وَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ مَا يُوهَبُ لَهُ- سَوَاءٌ كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ-؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ فِي الْوِلَايَةِ فِي مَالِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْوَاهِبُ لَهُ أَوْ غَيْرُهُ.
قَالَ: (فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ يَعُولُ يَتِيمًا، وَلَيْسَ بِوَصِيٍّ لَهُ، وَلَا بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْوَصِيِّ أَحَدٌ سِوَاهُ: جَازَ لَهُ مَا يُوهَبُ لَهُ- اسْتِحْسَانًا-)، وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي تَرْبِيَتِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الْوِلَايَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةٌ لِلْيَتِيمِ، فَمَنْ يَعُولُهُ خَلَفٌ عَنْ وَلِيِّهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهِ وَتَرْبِيَتِهِ.
لَوْ أَرَادَ أَجْنَبِيٌّ آخَر أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَأَنْ يُسَلِّمَهُ فِي تَعْلِيمِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّهِ، وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا هَذِهِ الْخِلَافَةَ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّبُ إلَى الْمَنَافِعِ، وَيُبْعِدُ عَنْ الْمَضَارِّ، وَفِي قَبْضِ الْهِبَةِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ هِبَةَ الْغَيْرِ لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الْوَاهِبُ فَأَعْمَلَهَا وَأَبَانَهَا: فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَبْضُهُ لَهُ قَبْضٌ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ أَوْ لَا يَعْقِلُ.
وَفِيهِ نَوْعُ إشْكَال؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ؛ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْخُلْفِ هَاهُنَا وَلَكِنَّ الْجَوَابَ أَنْ يَقُولَ: يَقْبِضُ لَا بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَالصَّغِيرُ تَبْقَى وِلَايَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَفِي اعْتِبَارِ قَبْضِ مَنْ يَعُولُهُ مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ بَابَانِ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ هُنَاكَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَوِلَايَةُ الْغَيْرِ خَلَفٌ، فَلَا يَظْهَرُ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَصْلِ.
قَالَ: (وَكُلُّ يَتِيمٍ فِي حِجْرِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ يَعُولُهُ فَوَهَبَ لَهُ رَجُلٌ هِبَةً، فَإِنَّمَا يَقْبِضُهَا الَّذِي يَعُولُهُ إذَا كَانَ هُوَ صَغِيرًا لَا يُحْسِنُ الْقَبْضَ)، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَاقِلًا يُحْسِنُ الْقَبْضَ فَقَبَضَ لَهُ مَنْ يَعُولُهُ: جَازَ- لِمَا بَيَّنَّا- وَإِنْ قَبَضَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ فَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ- وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ خُصُوصًا فِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ: لِلضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ، فَأَمَّا فِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَبِرْ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَقْلَهُ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ وَاعْتَبَرَهُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَعْتَبِرُ عَقْلَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ نَظَرُهُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ بِمَا لَهُ مِنْ الْعَقْلِ النَّاقِصِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَهَذَا فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ، وَالْمَنْفَعَةِ فَأَمَّا فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَتَهُ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ عَقْلِهِ تَوْفِيرَ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ إذَا كَانَ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ يُعْتَبَرُ عَقْلُهُ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقَتَيْنِ، ثُمَّ الْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ بَيْنَ النَّاسِ التَّصَدُّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٍ، وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٌ أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ كَبِيرٌ؛ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقَبْضِ تُوجَدُ مِنْهُ- وَهُوَ مَحْبُوسٌ- فَإِنَّمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ حُكْمِهِ؛ لِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَتَهُ لَهُ.
قَالَ: وَالصَّبِيَّةُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّ زَوْجَهَا يَقْبِضُ الْهِبَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ يَعُولُهَا، (فَإِنْ قِيلَ): الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا لِلْأَبِ دُونَ الزَّوْجِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْأَبَ أَقَامَ الزَّوْجَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا، وَحِفْظِ مَالِهَا؛ إذْ زَفَّهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ، وَقَبْض الْهِبَة مِنْ بَابِ الْحِفْظِ؛ فَيَقُومُ الزَّوْجُ فِيهِ مَقَامَ الْأَبِ، وَلَكِنْ لِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ وِلَايَةُ الْأَبِ فَإِذَا قَبَضَهَا الْأَبُ صَحَّ قَبْضه لِقِيَامِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ قَبَضَتْ بِنَفْسِهَا: جَازَ؛ لِأَنَّهَا تَعْقِلُ الْقَبْضَ، وَإِنْ قَبَضَ الزَّوْجُ: جَازَ- لِمَا بَيَّنَّا- وَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَلَّمَ الْأَبُ، وَلَدَهُ الصَّغِيرَ إلَى مَنْ يَعُولُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَقُومُ فِيهِ مَقَامَ الْأَبِ وَالزَّوْج فَحُكْمُ النِّكَاحِ يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ حَتَّى يَصِيرَ أَوْلَى بِهَا مِنْ أَبِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُزَفَّ إلَى زَوْجِهَا لَمْ يَعْتَبِرْ قَبْضَ الزَّوْجِ لَهَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِحُكْمِ أَنَّهُ يَعُولُهَا، وَإِنَّ لَهُ عَلَيْهَا يَدًا مُسْتَحَقَّةً، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ قَبْلُ.
وَإِنْ أَدْرَكْتَ لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الزَّوْجِ لَهَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِحُكْمِ أَنَّهُ يَعُولُهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا حِينَ بَلَغَتْ عَاقِلَةً.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْأَخِ وَالْجَدّ عَلَى الصَّغِيرِ إذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا حَاضِرًا)؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ حَاضِرًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ مَنْ هُوَ خَلَفٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَقَدْ خَرَجَ الصَّغِيرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِ الْأَبِ؛ فَيَصِيرُ هُوَ كَالْمَعْدُومِ، فَتَكُونُ وِلَايَةُ الْقَبْضِ لِلْأَخِ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ، وَنَظِيرُ حَقِّ الْحَضَانَةِ وَالْإِنْفَاق مِنْ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ مَالَ الْجَدِّ- مَا دَامَ الصَّغِيرُ مُنْتَفِعًا بِمَالِ الْأَبِ- فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ بِغَيْبَةِ مَالِهِ: جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ أَصْلًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ، فَحَالُ عَدَمِ الْمَاءِ وَحَالُ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ- وَهُوَ الطَّهَارَةُ- لَا يَحْصُلُ بِالْمَاءِ النَّجَسِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِ الْأَخِ وَغَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَكَانَ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ، وَعِيَالِهِ: جَازَ لَهُ قَبْضُ الْهِبَةِ.
وَلَوْ قَبَضَ الْأَخُ، لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي النَّظَرِ لَهُ، فَكَانَ هُوَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ، وَلَوْ كَانَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِهِ- بِأَنْ كَانَ حَاضِرًا-: لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الْأَخِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا- لِمَا بَيَّنَّا- أَنَّ مُجَرَّدَ قَرَابَةِ الْأَخِ لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِدُونِ الْيَدِ.
وَإِذَا كَانَ فِي عِيَالِ مَنْ اخْتَارَهُ الْأَبُ، فَلَيْسَ لِلْأَخِ عَلَيْهِ يَدٌ مَوْجُودَةٌ وَلَا مُسْتَحَقَّةٌ، حَتَّى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِمَّنْ يَعُولُهُ، فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلِمَنْ يَعُولُهُ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ- مَا لَمْ يَحْضُرْ الْأَبُ- فَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْهِبَةَ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.