فصل: بَابُ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الدَّافِعُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الدَّافِعُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ مِائَةٍ مِنْهَا فِي صَكٍّ، فَصَكٌّ مِنْهَا قَرْضٌ، وَصَكٌّ كَفَالَةٌ عَنْ رَجُلٍ، وَصَكٌّ كَفَالَةٌ عَنْ آخَرَ، فَدَفَعَ الْمَطْلُوبُ مِائَةَ دِرْهَمٍ إلَى الطَّالِبِ وَأَشْهَدَ ذَلِكَ الصَّكِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْإِعْطَاءِ بِالْجِهَةِ الَّتِي أَعْطَى بِهَا الْمَالَ فَتَصْرِيحُهُ بِذَلِكَ نَفَى مِنْهُ الْإِعْطَاءَ بِسَائِرِ الْجِهَاتِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أَعْطَى بِهَا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا أَدَّى مِنْ الطَّالِبِ.
وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ جِهَةِ الطَّالِبِ لِلتَّمْلِيكِ قَوْلُ الْمُمَلِّكِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ» وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ التَّمْلِيكَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ جِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ.
وَالْإِنْسَانُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مَقْبُولُ الْبَيَانِ فِيهِ، فِي الِانْتِهَاءِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ إذَا كَانَ مُفِيدًا لَهُ وَهَذَا بَيَانٌ مُفِيدٌ فَرُبَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الْمَالِ رَهْنٌ فَتَعَيَّنَ الْمَدْفُوعُ مِمَّا بِهِ الرَّهْنُ لِيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ وَرُبَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الْمَالِ كَفِيلٌ فَتَعَجَّلَ الْمَكْفُولُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ لِيُبْرِئَ كَفِيلَهُ، وَإِنْ مَاتَ الدَّافِعُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَتْ الْمِائَةُ مِنْ كُلِّ صَكٍّ ثَلَاثَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ الْمَدْفُوعِ مِنْ بَعْضِهَا بِأَوْلَى بِبَعْضٍ.
وَلَا بَيَانَ فِي ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا صَارَ مِيرَاثًا لَهُمْ وَالْمَالُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ دَيْنُهُ لَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ كَانَ لَهُ فِي التَّعْيِينِ فَلَا يَصِيرُ مِيرَاثًا وَهُوَ حَقُّ الْبَيَانِ لِمَا أَرَادَهُ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ.
وَلَا طَرِيقَ لِوَرَثَتِهِ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُونَ فِيهِ مَقَامَهُ كَحَقِّ الْبَيَانِ فِي الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ وَاخْتَلَفَتْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهَا مِنْ كُلِّ صَكٍّ ثَلَاثَةٌ إلَى أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ مِنْ الدَّافِعِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَبِهَا تَعَيُّنُ بَعْضِ الْجِهَاتِ فَيُجْعَلُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، أَوْ يَتَصَادَقُ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ يَعْنِي وَرَثَةَ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فَإِذَا تَصَادَقُوا عَلَى شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ يَكُونُ الْقَابِضُ حَيًّا فَيَقُولُ شَيْئًا فَتُصَدِّقُهُ وَرَثَةُ الدَّافِعِ فِي ذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ ثُمَّ إنْ أَحَدُهُمَا كَفَلَ عَنْ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ ثُمَّ أَدَّى خَمْسَمِائَةٍ مِمَّا فِي الصَّكِّ فَجَعَلَهُ مِنْ حِصَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ عِنْدَ الدَّفْعِ أَوْ بَعْدَ الدَّفْعِ؛ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَيَرْجِعُ بِهَا الْمَكْفُولُ عَنْهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا أَدَّى.
وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ مُفِيدٌ فَإِذَا قَبِلَ مِنْهُ؛ كَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنَ الْكَفَالَةِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا حَتَّى كَفَلَ الْآخَرُ عَنْهُ أَيْضًا بِأَمْرِهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ أَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَصْلِ الصَّكِّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ الْقَرْضِ فَأَيُّهُمَا قَضَى شَيْئًا فَهُوَ مِنْ حِصَّتِهِ خَاصَّةً دُونَ حِصَّةِ صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ حِصَّتَهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي أَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ صَاحِبِهِ لَا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا كَفِيلٌ عَنْك بِأَمْرِك، وَأَدَاؤُك عَنِّي كَأَدَائِي بِنَفْسِي فَكَانَ لِي أَنْ أُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْك فَأَنَا أَجْعَلُهُ الْآنَ عَنْك فَلَا يَزَالُ يَدُورُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَالْمُؤَدِّي هُنَاكَ إذَا جُعِلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُعَارِضَهُ فَيُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْهُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ.
فَإِنْ أَدَّى زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ؛ كَانَتْ مِمَّا كَفَلَ بِهِ عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي مُعَارَضَتِهِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَنْ حِصَّتِهِ بِأَدَائِهِ.
وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ عِنْدَ الْأَدَاءِ لِلنِّصْفِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ حِصَّتِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ زِيَادَةً عَلَى النِّصْفِ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ حَقٌّ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يُعَارِضُهُ بِجَعْلِ الْمُؤَدِّي عَنْهُ.
وَلَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَيْهِمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ كَانَ مَا أَدَّى أَحَدُهُمْ مِنْ حِصَّتِهِ إلَى الثَّلَاثِ فَإِذَا جَاوَزَ الثَّلَاثَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا أَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْهُمَا فَإِذَا جَعَلَ الزِّيَادَةَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْمَجْعُولِ ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي بَيَّنَّا فَتَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَيَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ.
وَلَوْ كَانُوا مُكَاتَبِينَ ثَلَاثَةً بَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّى بَعْضُهُمْ طَائِفَةً مِنْ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِمْ جَمِيعًا قَلَّ الْمُؤَدَّى أَوْ كَثُرَ.
وَلَوْ جَعَلَهَا الْمُؤَدِّي مِنْ حِصَّتِهِ أَوْ حِصَّةِ صَاحِبَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا؛ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ الْمُكَاتَبِ، وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً.
وَالْمُكَاتَبُ الْوَاحِدُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ بَعْضِ نَفْسِهِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَصِيلٌ فِي بَعْضِ الْمَالِ كَفِيلٌ فِي الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ صَحِيحٌ مِنْ الْأَحْرَارِ.
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي جَعْلِ الْمُؤَدَّى مِنْ نَصِيبِ الْمُؤَدِّي- خَاصَّةً فِي بَابِ الْكِتَابَةِ- إبْطَالَ شَرْطِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ جَمِيعُ الْمَالِ فَإِذَا أَدَّى أَحَدُهُمْ الثُّلُثَ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً عَتَقَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ بَرِئَ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَبَرَاءَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ تُوجِبُ الْعِتْقَ.
وَفِي هَذَا إبْطَالُ شَرْطِ الْمَوْلَى؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُؤَدَّى عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّا وَإِنْ جَعَلْنَا الْمُؤَدَّى هُنَاكَ مِنْ نَصِيبِ الْمُؤَدِّي خَاصَّةً؛ يَبْقَى الْبَائِعُ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ فَجَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِ مَا لَمْ يَزِدْ الْمُؤَدَّى عَلَى الثُّلُثِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ دَيْنٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الطَّالِبُ: هِيَ وَدِيعَتِي وَقَالَ الْمَطْلُوبُ: هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ وَهِيَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ لَكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ الْمَدْفُوعِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الدَّافِعِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَنَّهُ مِلْكِي وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْوَدِيعَةِ مُسَلَّطٌ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ هَلَاكِهَا، فَيَثْبُتُ الْقَوْلُ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ وَيَبْقَى الدَّيْنُ وَقَدْ دَفَعَ إلَى الطَّالِبِ مِثْلَ الدَّيْنِ عَلَى جِهَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ هَلَاكِ الْوَدِيعَةِ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى يَبْطُلَ لِمَكَانِ الدَّيْنِ الْمُحِيطِ بِالتَّرِكَةِ وَيَبْطُلُ إذَا وَقَعَتْ لِوَارِثٍ أَوْ عَنْ وَارِثٍ وَيَبْطُلُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِ الْمَالِ فِي مَرَضِهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ إلَّا أَنْ يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ صَحِيحًا عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْمَرَضَ يَتَعَقَّبُهُ بُرْؤُهُ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَمَا لَا يَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ، فَإِنَّمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ وَعَنْ الْوَارِثِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْوَارِثِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقَوْلِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِوَارِثِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ.
وَلَوْ كَفَلَ الْمَرِيضُ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَرَّ بِدِينٍ يُحِيطُ بِمَالِهِ؛ فَلَا شَيْءَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ وَاصْطِنَاعُ مَعْرُوفٍ كَالْهِبَةِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ؛ جَازَ ذَلِكَ وَأُخِذَ مِنْ مَالِهِ أَلْفٌ لِخُرُوجِ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ كَفِيلًا بِأَمْرِهِ كَمَا لَوْ أَدَّى بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَمَاتَ الْكَفِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَضَرَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ بِدَيْنِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ فَأَصَابَهُ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ؛ ضَرَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ فِي مَالِهِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ لِبَقَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ تَرِكَةِ الْكَفِيلِ وَضَرَبَ وَارِثُ الْكَفِيلِ بِالْخَمْسِمِائَةِ دَرَاهِمَ الَّتِي أَدَّى؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَدَّى بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ فَمَا أَصَابَ وَارِثُ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْكَفِيلِ بِالْحِصَصِ وَيَضْرِبُ الْمَكْفُولُ لَهُ بِمَا بَقِيَ لَهُ أَيْضًا (وَهَذِهِ) هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ فِي هَذَا جَذْرَ الْأَصَمِّ وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْرِيجِهَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّقْرِيبِ فَإِنَّ مَا يَسْتَوْفِي الْمَكْفُولُ لَهُ ثَانِيًا مِمَّا فِي يَدِ الْوَارِثِ لِلْكَفِيلِ يَرْجِعُ بِهِ وَارِثُ الْكَفِيلِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَيْضًا فَتُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ الْأُولَى وَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ.
وَلَوْ أَنَّ مُتَفَاوِضَيْنِ عَلَيْهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ مَاتَا جَمِيعًا وَتَرَكَا أَلْفًا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ مَهْرُ امْرَأَتِهِ قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَمْ يَضْرِبْ الطَّالِبُ فِي مَالِ أَيِّهِمَا شَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ بَعْضُهَا بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَبَعْضُهَا بِجِهَةِ الْكَفَالَةِ فَيَضْرِبُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فِي تَرِكَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَتَضْرِبُ امْرَأَتُهُ بِمَهْرِهَا أَيْضًا ثُمَّ يَضْرِبُ مَعَ امْرَأَةِ الْآخَرِ بِمَا بَقِيَ وَتَضْرِبُ هِيَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ.
هَكَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ جَوَاهِرُ زَادَهْ وَتَضْرِبُ هِيَ بِاَلَّذِي بَقِيَ لَهَا مِنْ مَهْرِهَا وَلَا تَرْجِعُ الْوَرَثَةُ بِاَلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي مَالِ الثَّانِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ أَصَابَ مِنْ مَالِهِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ النِّصْفِ هُوَ أَصِيلٌ فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ النِّصْفَ أَوْ مَا دُونَهُ؛ لَا تَرْجِعُ وَرَثَتُهُ فِي تَرِكَةِ الْآخَرِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُونَ بِالْفَضْلِ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا ذَلِكَ بِجِهَةِ كَفَالَةِ صَاحِبِهِمْ عَنْ شَرِيكِهِ بِأَمْرِهِ.
فَإِذَا قَبَضُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ الْمَقْبُوضُ لِامْرَأَتِهِ وَلِلطَّالِبِ إنْ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ بِالْحِصَصِ ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعُودُ الْجَذْرُ الْأَصَمُّ وَمَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّرْنَا أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَوْفِيهِ الطَّالِبُ يُثْبِتُ لَهُمْ حَقَّ الرُّجُوعِ بِهِ فِي تَرِكَةِ الشَّرِكَةِ؛ فَتُنْتَقَضُ بِهِ الْقِسْمَةُ الْأُولَى.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.بَابُ ادِّعَاءِ الْكَفِيلِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ رِبَا:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ ثُمَّ غَابَ الْأَصِيلُ فَادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّ الْأَلْفَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِكَفَالَةٍ صَحِيحَةٍ.
وَالْمَالُ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ بِالْتِزَامِهِ بِالْكَفَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا بِهَا كَفِيلٌ بِأَمْرِهِ وَجَحَدَ الْأَصِيلُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ.
فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ مَا يُسْقِطُ الْمَالَ عَنْهُ؛ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَعَ هَذَا مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ بِالْكَفَالَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْأَصِيلَ مُطَالِبٌ بِهَذَا الْمَالِ وَالْمُسْلِمُ لَا يَكُونُ مُطَالِبًا بِثَمَنِ خَمْرٍ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ، وَالدَّعْوَى مَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى إقْرَارِ الطَّالِبِ بِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَلَوْ أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ لِأَنَّ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ وَقَبُولَ الْبَيِّنَةِ تَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُنَاقِضٌ وَلَوْ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ فِي ذَلِكَ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْخَصْمِ صَحِيحٌ مَعَ كَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ ثُمَّ إنَّ أَصْلَ سَبَبِ الْتِزَامِ الْمَالِ جَرَى بَيْنَ الْمَطْلُوبِ وَالطَّالِبِ وَالْكَفِيلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ وَيَدَّعِي مَعْنًى كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَالِبًا بِالْمَالِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تَقُومُ لِلْغَائِبِ، وَالْبَيِّنَةُ لِلْغَائِبِ وَعَلَى الْغَائِبِ لَا تُقْبَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي لِلْجَارِيَةِ إذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ لِيَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ (وَالْحَوَالَةُ) فِي هَذَا كَالْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْكَفِيلِ فَهُوَ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا عَلَى غَيْرِهِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي أَنَّ الطَّرِيقَ الْأَصَحَّ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَصْلَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ وَغَابَ الطَّالِبُ وَحَضَرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَقَالَ: الْمَالُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفِيلِ خُصُومَةٌ فِي ذَلِكَ وَيَدْفَعُ الْمَالَ إلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ وَيُقَالُ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ: اُطْلُبْ صَاحِبَكَ فَخَاصِمْهُ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبًا فِي تَصَرُّفٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ وَهَذَا الْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ، أَوْ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ بِجِهَةِ الْكَفَالَةِ وَلَوْ أَقَرَّ الطَّالِبُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ مَالِهِ عِنْدَهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهُوَ إقْرَارٌ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِي عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ فَإِذَا بَقِيَ أَصْلُ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ بِإِقْرَارِهِ أَوْلَى أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ فَإِنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ وَأَبْرَأَ الْقَاضِي الْكَفِيلَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ قَرْضٌ؛ لَزِمَهُ الْمَالُ إنْ صَدَّقَهُ الطَّالِبُ بِذَلِكَ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَهُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْكَفِيلِ وَقَدْ اسْتَفَادَ الْكَفِيلُ الْبَرَاءَةَ بِمَا سَبَقَ مِنْ إقْرَارِ الطَّالِبِ وَيُجْعَلُ هَذَا مِنْ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِلطَّالِبِ ابْتِدَاءً بِدَيْنٍ آخَرَ سِوَى الدَّيْنِ؛ كَانَ كَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ.
وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا بَاعَ مُسْلِمًا خَمْرًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَ مُسْلِمًا عَلَيْهِ بِهَا بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَلَوْ أَحَالَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَعَلَهَا لَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ غَابَ الْمُحِيلُ وَقَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ: الْمَالُ الَّذِي عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ؛ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِالْحَوَالَةِ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ مَا الْتَزَمَ وَهُوَ إنَّمَا يَدَّعِي سَبَبًا مُبْطَلًا بِعَقْدٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ وَهَذَا الْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا دَفَعَ الْمَالَ ثُمَّ حَضَرَ الْمُحِيلُ خَاصَمَهُ: إنْ أَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِذَلِكَ؛ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْحَوَالَةَ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى وَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فَكَانَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِمَا لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْمَالَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُحِيلُ فَخَاصَمَهُ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ؛ أَبْطَلَهَا الْقَاضِي عَنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْحَوَالَةَ مُقَيَّدَةً بِالْمَالِ الَّذِي لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَانَتْ الْحَوَالَةُ بَاطِلَةً، وَإِنْ كَانَ أَحَالَهُ عَلَيْهِ حَوَالَةً مُطْلَقَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا وَلَكِنَّهُ يُؤَدِّيهَا وَيَرْجِعُ بِهَا لِأَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَسْتَدْعِي مَالًا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَا فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً يُؤَدِّي الْمَالَ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَيْهِ.
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ رَجُلًا عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْمَالِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ الْعَبْدَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وُجِدَ حُرًّا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَالْحَوَالَةَ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَحَالَ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلَا مَالَ.
وَلَوْ رَدَّ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ تَبْطُلْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي تَقَيَّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ بَطَلَ مِنْ الْأَصْلِ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصِيلِ، وَلَوْ ظَهَرَ بُطْلَانُهُ؛ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فَكَذَلِكَ إذَا بَطَلَ مِنْ الْأَصِيلِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْحَوَالَةَ لَمَّا صَحَّتْ مُقَيَّدَةً بِمَالٍ وَاجِبٍ عِنْدَهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَوْ بَطَلَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدَّيْنِ بِهَا أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالذِّمَّةِ لَا بِالدَّيْنِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِيفَاءً لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ اسْتِيفَاءً إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلِاسْتِيفَاءِ.
وَالدَّيْنُ لَا يَقْبَلُ اسْتِيفَاءَ دَيْنٍ آخَرَ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ فَقَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِدَيْنِ الْحَوَالَةِ تَعَلُّقٌ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَصَارَ كَالْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَلَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَحَالَ عَلَى مُودِعِهِ لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ حَيْثُ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ لِلدَّيْنِ تَعَلُّقٌ بِهِ اسْتِيفَاءً لِكَوْنِهِ قَابِلًا لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِبُطْلَانِهِ.
وَإِذَا أَحَالَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ كَانَتْ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ وَكَانَ مِثْلُهَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ مَالُهُ الَّذِي عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَبَيْنَ الْمُحْتَالِ لَهُ بِالْحِصَصِ وَلَا يَخْتَصُّ الْمُحْتَالُ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَخْتَصُّ بِهِ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُحِيلِ حَتَّى لَوْ حُجِرَ الْمُحِيلُ عَنْ اسْتِيفَائِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهَنِ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَالُ الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ لَا يَصِيرُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ.
وَمَتَى كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ كَانَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْخُرُوجِ فَصَارَ هُوَ وَسَائِرُ غُرَمَائِهِ سَوَاءً.
وَإِنَّمَا مُنِعَ الْمُحِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عُرْضَةِ الْخُرُوجِ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ؛ يَكُونُ الْمُحْتَالُ لَهُ أَحَقَّ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ التَّوَى عَلَى الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِهِ وَقَدْ اُسْتُحِقَّتْ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصِيلِ فَيَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.