فصل: بَابُ الْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي كُلِّ دَيْنٍ مَا خَلَا دَيْنَ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْأَجْدَادِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ فِي دَيْنِهِ أَمَّا فِي دَيْنِ غَيْرِهِمْ فَيُحْبَسُ لِأَنَّهُ بِالْمَطْلِ صَارَ ظَالِمًا، وَالظَّالِمُ يُحْبَسُ وَأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ حَدًّا فِي الزِّنَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} وَالْمُرَادُ بِهِ: الْحَبْسُ، وَكَذَلِكَ «حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ»، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ اتَّخَذَ سِجْنَيْنِ سَمَّى أَحَدَهُمَا نَافِعًا وَالْآخَرَ مُخَيَّسًا، وَكَذَلِكَ شُرَيْحٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- كَانَ يَحْبِسُ النَّاسَ وَحَبَسَ ابْنَهُ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ عَنْ رَجُلٍ وَلَا يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَتَقَدَّمُ إلَى الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: قُمْ فَأَرْضِهِ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يَحْبِسْهُ، وَالْقِيَاسُ فِي دَيْنِ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدَيْهِ هَكَذَا.
إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي دَيْنِ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ الْوَالِدُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ» وَلَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالِهِ لِأَنَّ لَهُ ضَرْبَ تَأْوِيلٍ فِي مَالِهِ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ اتَّخَذَ سِجْنَيْنِ وَقَالَ فِيهِ أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيَّسَا بَنَيْتُ بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا وَعَنْ الشَّعْبِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَجِرْنِي فَقَالَ: مِمَّ؟ قَالَ: مِنْ دَيْنٍ.
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السِّجْنُ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَأَنَّك بِالطِّلْبَةِ خِلْوٌ.
ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ الْحَبْسَ مَشْرُوعٌ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَا يُبَاعُ مَالُ الْمَدْيُونِ الْمَسْجُونِ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَاصْطَرَفَهَا بِدَرَاهِمَ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- يُبَاعُ مَالُهُ.
وَهِيَ مَسَائِلُ الْحَجْرِ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ فِي أَسْفَعِ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: سَبَقَ الْحَاجَّ فَادَّانَ مُعْرِضًا حَتَّى دِينَ بِهِ.
فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَفِدْ عَلَيْنَا فَأَنَا بَائِعٌ مَالَهُ، قَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَإِيَّاكَ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ.
وَنِعْمَ مَا قَالَ؛ فَإِنَّ الدَّيْنَ سَبَبُ الْعَدَاوَةِ- خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا- فَيُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النُّفُوسِ وَيَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْمَالِ خُصُوصًا مُدَايَنَةُ الْمَفَالِيسِ.
وَالْحَرْبُ هُوَ الْهَلَاكُ ثُمَّ إذَا حُبِسَ الْمَدْيُونُ وَلَمْ يَدَّعِ الْإِعْسَارَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُخْلَى عَنْهُ.
أَمَّا إذَا ادَّعَى الْإِعْسَارَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دُيُونٍ وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْمُبَايَعَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدَّقَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ بَدَلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ سِوَى الْمُبَايَعَاتِ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْكَفَالَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَدَّقُ وَلَا يُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعَدَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ الْمَالَ اخْتِيَارًا دَلِيلُ قُدْرَتِهِ وَلَوْ كَانَ دَيْنًا وَجَبَ حُكْمًا بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ وَنَحْوِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةُ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: إذَا حُبِسَ الرَّجُلُ شَهْرَيْنِ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ سَأَلَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ مَا يَحْبِسُهُ وَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي إنْ أُخْبِرَ بَعْدَ أُوَيْقَاتٍ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنْ قَالُوا: وَاجِدٌ أَمَرَ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَخْفَى مَالَهُ فَيَشْهَدُ النَّاسُ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ؛ فَتَبْطُلُ حُقُوقُ النَّاسِ وَإِذَا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ؛ أَخْرَجَهُ وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ لُزُومِهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَمْنَعُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ لِأَنَّهُ مُنْظِرٌ بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ مُنْظِرًا بِإِنْظَارِهِ؛ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْمُلَازَمَةِ هَكَذَا كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّهُ مَنْظَرٌ إلَى زَمَانِ الْوُجُودِ وَوُجُودُ مَا يُقَدِّرُهُ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ مَوْهُومٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُهُ إذَا وَجَدَ مَالًا أَوْ اكْتَسَبَ شَيْئًا فَوْقَ حَاجَتِهِ الدَّرَاةَ؛ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَالْكَفِيلُ بِالْمَالِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ خِطَابَ الْأَدَاءِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْكَفِيلِ كَمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَذُكِرَ عَنْ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى نَزَلُوا فِي حُكْمِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ حَتَّى ضَرَبَ رِقَابَهُمْ» فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَبْسَ مَشْرُوعٌ وَإِذَا حُبِسَ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ؛ فَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَازَمَهُ الطَّالِبُ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْزَمَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مِنْ مَالِ الْمَطْلُوبِ بِأَمْرِهِ فَكَانَ الْأَصِيلُ مُلْتَزِمًا تَخْلِيصَهُ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِقْرَاضِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْأَدَاءِ.
وَإِذَا حُبِسَ رَجُلٌ بِدَيْنٍ فَجَاءَ غَرِيمٌ لَهُ آخَرُ يُطَالِبُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْمُدَّعِي فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ أَوْ قَامَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ؛ كَتَبَ اسْمَهُ فِيمَنْ حُبِسَ لَهُ مَعَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ رُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَيُخْلِي سَبِيلَهُ فَيَكْتُبُهُ حَتَّى لَا يُخْلِيَ سَبِيلَهُ إلَّا بِقَضَائِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَدْ فَلَّسَ الْمَحْبُوسَ؛ جَازَ إقْرَارُهُ لِأَشْخَاصٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقَالَ: تَفْلِيسُ الْقَاضِي إيَّاهُ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا بِشَيْءٍ يُضِيفُهُ فِي مَالِهِ مَا خَلَا الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَالنِّكَاحَ وَالْإِقْرَارَ بِالسَّبَبِ فَإِنَّا نَدَعُ الْقِيَاسَ فِيهِ وَنُجَوِّزُهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقَوْلُ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَيَعْنِي بِالتَّفْلِيسِ أَنْ يَحْكُمَ بِعَجْزِهِ عَنْ الْكَسْبِ فَيَجْعَلَهُ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فَيُحْكَمُ بِتَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَائِهِ فِي مَالِ هَذَا.
وَهَذَا نَوْعُ حَجْرٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يَرَى ذَلِكَ وَهُمَا يُجَوِّزَانِ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْحَبْسُ بِتَفْلِيسٍ؛ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَا دَلَالَةَ الْعَجْزِ وَلَا يُضْرَبُ الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُقَيَّدُ وَلَا يُقَامُ وَلَا يُؤَاجَرُ لِأَنَّ هَذِهِ عُقُوبَاتٌ زَائِدَةٌ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْحَبْسِ لِيَكُونَ حَامِلًا لَهُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرْبُ عُقُوبَةٍ بِالنُّصُوصِ وَلَا نَصَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ صَفَدٌ وَلَا قَيْدٌ وَلَا غِلٌّ وَلَا تَجْرِيدٌ وَالصَّفَدُ مَا نُقَيِّدُ بِهِ الْأَيْدِي.
أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا يُقَامُ يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ بِالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِ الْمَالِ إهَانَةً لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعَ عُقُوبَةٍ وَلَا يُؤَاجَرُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ فِي نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأُولَى.
وَيُحْبَسُ الْأَبَوَانِ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَلَا تُشْتَبَهُ النَّفَقَةُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْوَلَدِ إنَّمَا شُرِعَ صِيَانَةً لِلْوَلَدِ عَنْ الْهَلَاكِ.
وَالْمُمْتَنِعُ كَالْقَاصِدِ الْهَلَاكَ وَمَنْ قَصَدَ إهْلَاكَ وَلَدِهِ؛ يُحْبَسُ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَصْدُ إهْلَاكِ نَفْسِهِ وَلَا يَخْرُجُ الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ بِجُمُعَةٍ وَلَا عِيدٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا جِنَازَةٍ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُحْبَسَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْلُصُ بَعْدَ زَمَانٍ حَتَّى يَضْجَرَ قَلْبُهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيُسَارِعُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَوْ خَرَجَ أَحْيَانًا لَا يَضِيقُ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ وَلِهَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ يُحْبَسَ فِي مَوْضِعٍ خَشِنٍ لَا يُتَبَسَّطُ لَهُ فِي فِرَاشٍ وَلَا وِطَاءٍ وَلَا أَحَدَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِيَسْتَأْنِسَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وَإِذَا سَأَلَ الْقَاضِي عَنْ الْمَحْبُوسِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي السِّرِّ فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِعَدَمِهِ خَلَّى سَبِيلَهُ وَلَمْ يُخْلِ بَيْنَ غَرِيمِهِ وَبَيْنَ لُزُومِهِ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شُهُودٌ أَنَّهُ مُوسِرٌ أَوْ أَنَّ لَهُ مَالًا أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمْ وَيَتْرُكُ الْمَسْأَلَةَ فِي السِّرِّ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ لِلِاخْتِبَارِ وَمَتَى ظَهَرَتْ حَالُهُ بِالشَّهَادَةِ لَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الِاخْتِبَارِ، وَإِنْ أَدَّى دَيْنَ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ دَيْنَ الْآخَرِ لِأَنَّ الظُّلْمَ قَائِمٌ وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي الدِّرْهَمِ وَفِي أَقَلِّ مِنْهُ لِأَنَّ مَانِعَ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ ظَالِمٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْبِسَ النِّسَاءِ فِي الدَّيْنِ عَلَى حِدَةٍ وَلَا يَكُونُ مَعَهُنَّ رَجُلٌ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى فِتْنَةٍ وَلَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنْ دُخُولِ أَخَوَاتِهِ وَأَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ حَتَّى يُشَاوِرَهُمْ فِي تَوْجِيهِ دُيُونِهِ وَلَكِنْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْمُكْثِ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْتَأْنِسَ بِهِمْ وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ لِمَوْلَاهُ بِالْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَلَا يَلِيقُ بِهِ الْحَبْسُ.
(أَلَا تَرَى)
أَنَّهُ لَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ يَسْقُطُ وَيُحْبَسُ بِدِينٍ غَيْرِ الْكِتَابَةِ قَالُوا: أَرَادَ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَوْلَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْبَسُ بِدَيْنِ الْمَوْلَى، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَجَانِبِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَ مَوْلَاهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ طَعَامٌ وَمُكَاتَبَتُهُ دَرَاهِمُ فَإِنَّ الْمَوْلَى يُحْبَسُ فِي دَيْنِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى مَوْلَاهُ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَجَانِبِ فِي حَقِّ أَكْسَابِهِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَكُونُ لَهُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنٌ وَلَا يُحْبَسُ لِحَقِّهِ، وَلَكِنْ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالصَّبِيُّ التَّاجِرُ فِي السِّجْنِ مِثْلُ الرَّجُلِ يَعْنِي يُحْبَسُ لِأَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَتَحَقَّقُ ظُلْمُهُ، وَالْغُلَامُ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ الْمَتَاعَ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ وَلَيْسَ بِنَاجِزٍ مِثْلُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ فِي حَقِّ الْحَبْسِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ يُحْبَسُ الصَّبِيُّ أَوْ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلِيُّهُ وَفِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَيَّدَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا لِأَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَوَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُخَاطَبُ بِذَلِكَ لَا هُوَ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الْحَبْسُ لِلصَّبِيِّ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ حَتَّى لَا يَتَجَاسَرَ عَلَى مِثْلِهِ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ أَسْبَابِ التَّعَدِّي قَصْدًا أَمَّا مَا وَقَعَ خَطَأً مِنْهُ فَلَا وَلَا يَحْبِسُ الْعَاقِلَةَ فِي الدِّيَةِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ الْأَرْشِ بِقَضَائِهِ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَةِ، وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تُعْطَى مِنْ عَطَائِهِمْ لَا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِمْ حَتَّى لَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ التَّأْدِيَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ عَطَاءٌ يُفْرَضُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهِ حُبِسُوا، وَكَذَلِكَ الذُّعَّارُ يُحْبَسُونَ أَبَدًا حَتَّى يَتُوبُوا وَالذَّاعِرُ الَّذِي يُخَوِّفُ النَّاسَ وَيَقْصِدُ أَخْذَ أَمْوَالِهِمْ فَكَانَ فِي مَعْنَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا وَلَهُ دَارٌ وَرَقِيقٌ وَعُرُوضٌ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ لَمْ يُحْبَسْ وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَرَى رَأْيَهُ فِيهِ إنْ شَاءَ جَعَلَ وَكِيلًا بِبَيْعِ بَعْضِ مَالِهِ فَيُوفِي الطَّالِبَ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْبَسُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْبِسُ مَنْ يُخَاطَبُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لِمَا مَرَّ وَلَا يُحْبَسُ الصَّبِيُّ إلَّا بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَيُحْبَسُ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ بِدَيْنِهِ وَالذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ وَيُحْبَسُ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ وَيُحْبَسُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْكُلِّ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ لِلْكَفِيلِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ: قَدْ بَرِئْتَ إلَيَّ مِنْ الْمَالِ الَّذِي كَفَلْتَ بِهِ مِنْ فُلَانٍ؛ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْبَرَاءَةِ بِفِعْلِ مُتَعَدٍّ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَالْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ وَذَلِكَ بِفِعْلِ الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مُتَعَدٍّ مِنْ الْمَطْلُوبِ إلَى الطَّالِبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ دَفَعْتَ إلَيَّ الْمَالَ أَوْ نَقَدْتنِي أَوْ قَبَضْتُهُ مِنْك، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ وَإِذَا قَالَ أَبْرَأْتُكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى نَفْسِهِ مُتَعَدِّيًا إلَى الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُ.
وَلَوْ قَالَ: بَرِئْتَ مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يَقُلْ: إلَيَّ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْبَرَاءَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ الْمَعْهُودِ، وَالسَّبَبُ الْمَعْهُودُ الْإِيفَاءُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُك لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَدْنَى أَوْلَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ لَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَقَدْ مَرَّ هَذَا فِي الْجَامِعِ.
وَالتَّحْلِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُوصَفُ بِالتَّحْلِيلِ.
أَمَّا الْمَالُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الدَّيْنُ فَيُوصَفُ بِهَذَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْضُوعِ الدُّيُونَ فَمَتَى حَلَّلَهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ ذَلِكَ أَصْلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَقَّ لِي فِي مَالِك وَلَوْ قَالَ لَهُ هَكَذَا؛ كَانَ إبْرَاءً مُطْلَقًا فَهَذَا كَذَلِكَ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ وَلَوْ وَكَّلَ الطَّالِبُ وَكِيلًا بِقَبْضِ مَالِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ: لِلْكَفِيلِ بَرِئْتَ إلَيَّ؛ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ فَيَصِحُّ.
وَلَوْ قَالَ الْوَصِيُّ لِلْكَفِيلِ: قَدْ أَبْرَأْتُك أَوْ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ التَّاجِرُ وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ إذَا قَالُوا ذَلِكَ لِلْكَفِيلِ؛ لَا يَصِحُّ لِمَا مَرَّ وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ مِنْ الْمَالِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْهِبَةَ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّهِ إلَّا مُجَرَّدَ الْمُطَالَبَةِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْإِسْقَاطَاتِ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَمْلِيكًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ لَهُ فِي مَالِهِ غَيْرُ عَيْنٍ فَصَارَ هَذَا تَصَرُّفًا بِإِسْقَاطِ الْفِعْلِ عَنْهُ وَيُجْعَلُ الْوَاجِبُ لَهُ إسْقَاطًا مِنْ وَجْهٍ وَتَمْلِيكًا مِنْ وَجْهٍ فَوَفَّرْنَا عَلَى السَّهْمَيْنِ حَظَّهُمَا فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ؛ لِشَبَهِهِ بِالْإِسْقَاطِ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِشَبَهِهِ بِالتَّمْلِيكَاتِ.
وَمِثْلُهُ لَوْ وُهِبَ مِنْ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَمَا لَوْ وُهِبَ مِنْ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَفْظٌ وُضِعَ لِلتَّمْلِيكِ وَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ جَائِزَةٌ.
فَإِذَا سَلَّطَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ يُجْعَلُ ذَلِكَ نَقْلًا لِلدَّيْنِ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الْهِبَةِ مِنْهُ فَيَصِيرُ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ- لَوْ أَمْكَنَ- ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةُ نَقْلِ الدَّيْنِ إلَيْهِ قَصْدًا بِإِحَالَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا تَصْحِيحًا لَهُ وَإِذَا اسْتَقَامَ تَحْقِيقُ الْهِبَةِ كَمَا فِي حَقِّهِ وَجَبَ الْجَرْيُ عَلَى مُقْتَضَى الْهِبَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَصِيلِ.
وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ مِنْ الدَّيْنِ؛ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ.
وَلَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ مِنْهُ فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ فِي الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَمَتَى مَاتَ؛ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الرَّدِّ فَانْبَرَمَ.
بِمَنْزِلَةِ لَوْ تَصَرَّفَ لَهُ فِيهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَيِّتًا فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي حِلٍّ مِنْهُ؛ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَائِمٌ عَلَيْهِ حُكْمًا فَاحْتَمَلَ الْإِسْقَاطَ فَإِنْ قَالَتْ الْوَرَثَةُ: لَا تُقْبَلُ فَلَهُمْ ذَلِكَ وَيَقْبِضُونَ الْمَالَ، وَالْكَفِيلُ مِنْهُ بَرِيءٌ.
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ فَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ بِأَنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِمْ حَقِيقَةً إنَّمَا عَلَيْهِمْ مُجَرَّدُ الْمُطَالَبَةِ فَأَشْبَهَ الْكَفِيلَ ثُمَّ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَكَذَا فِي حَقِّهِمْ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: إنَّ الدَّيْنَ قَائِمٌ وَقَدْ أَخَذَ شَبَهًا بِالْأَعْيَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ فَكَانَ أَقْبَلَ لِلتَّمْلِيكِ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَالْمِلْكُ بِهَذَا التَّمْلِيكِ وَاقِعٌ لَهُمْ فَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ كَمَا لَوْ أَضَافَ الْإِبْرَاءَ إلَيْهِمْ تَنْصِيصًا وَإِذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْأَصِيلِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ فَضْلُهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْهُ كَالْهِبَةِ مِنْ كَفِيلِهِ وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ كَفِيلِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ؛ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ إبْرَاءَهُ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِذَا وَهَبَ لِلْكَفِيلِ وَقَبِلَهُ؛ رَجَعَ بِهِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ.
وَالتَّمْلِيكُ مِنْهُ صَحِيحٌ.
لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ فِي حَقِّ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ بِالْأَدَاءِ وَإِذَا مَلَكَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بَرِيءٌ، أَوْ كَانَتْ حَوَالَةً فَوَهَبَ الطَّالِبُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ؛ لِانْتِقَالِ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَصْلُحَ.
وَلَوْ وَهَبَ الْكَفِيلُ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْأَصِيلِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ لِانْعِقَادِ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ أَدَّى الْكَفِيلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ مِلْكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ؛ فَصَحَّتْ الْهِبَةُ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَإِنْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ هِبَتَهُ بَاطِلَةٌ لِانْتِقَاضِ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ بَيْنَهُمَا.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.